اضطرابات الشخصية: استكشف كيف تُؤثر على السلوك والعلاقات. تعرف على الأسباب، التشخيص، والتدخلات العلاجية لتحسين جودة الحياة.
تُعد اضطرابات الشخصية أنماطاً ثابتة ومنتشرة من الأفكار، المشاعر، والسلوكيات التي تنحرف بشكل كبير عن التوقعات الثقافية. هذه الأنماط صلبة، ثابتة بمرور الوقت، وتؤدي إلى ضائقة أو خلل وظيفي كبير في مجالات متعددة من حياة الفرد، مثل العلاقات الشخصية، العمل، أو الدراسة. على عكس اضطرابات المزاج أو القلق التي تأتي وتذهب، تُعتبر اضطرابات الشخصية جزءاً لا يتجزأ من طريقة رؤية الفرد لنفسه وللعالم.
غالباً ما تبدأ اضطرابات الشخصية في الظهور خلال فترة المراهقة أو أوائل مرحلة البلوغ، وقد تستمر لسنوات طويلة دون تشخيص أو علاج. إن فهم كيفية تشخيص هذه الاضطرابات، وأنواعها المختلفة، و استراتيجيات التعامل الفعالة، يُعد أمراً بالغ الأهمية ليس فقط للمصابين أنفسهم، ولكن أيضاً للأسر والمجتمع ككل، لتوفير الدعم المناسب وتحسين جودة الحياة.
يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل شامل لـ اضطرابات الشخصية، بما في ذلك معايير تشخيصها، الأنواع المصنفة ضمن الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، واستراتيجيات التعامل والعلاج التي تُقدم الأمل في التغيير والتعافي.
1. تشخيص اضطرابات الشخصية: فهم المعايير
يُعد تشخيص اضطرابات الشخصية عملية معقدة تتطلب تقييماً شاملاً من قبل أخصائي صحة نفسية مؤهل. لا يُمكن تشخيص اضطراب الشخصية بناءً على سلوك واحد فقط، بل على نمط مستمر وراسخ عبر الزمن وفي مواقف مختلفة. وفقاً لـ الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، يجب أن تُطابق اضطرابات الشخصية المعايير التالية:
- نمط دائم من التجربة الداخلية والسلوك الذي ينحرف بشكل ملحوظ عن توقعات ثقافة الفرد. يُظهر هذا النمط في اثنين (أو أكثر) من المجالات التالية:
- الإدراك (طرق إدراك الذات والآخرين والأحداث).
- العاطفة (مدى، شدة، تقلب، وملاءمة الاستجابة العاطفية).
- الأداء البينشخصي (كيفية التفاعل مع الآخرين).
- التحكم في الاندفاع.
- أن يكون النمط الدائم غير مرن ومنتشر عبر مجموعة واسعة من المواقف الشخصية والاجتماعية.
- أن يُؤدي النمط الدائم إلى ضائقة كبيرة أو خلل وظيفي في مجالات مهمة من الحياة.
- أن يكون النمط مستقراً وطويل الأمد، ويُمكن تتبعه إلى مرحلة المراهقة أو أوائل مرحلة البلوغ على الأقل.
- لا يُمكن تفسير النمط الدائم بشكل أفضل كنتيجة لاضطراب نفسي آخر، أو لآثار مادة (مثل تعاطي المخدرات)، أو حالة طبية أخرى[1].
2. أنواع اضطرابات الشخصية: تصنيف المجموعات
يُصنف DSM-5 اضطرابات الشخصية إلى ثلاث مجموعات (Clusters) بناءً على تشابه الأعراض:
2.1. المجموعة أ: الغريبة أو الشاذة
تتميز هذه المجموعة بأنماط سلوك غريبة أو شاذة، وغالباً ما تتضمن التفكير الشكوكية أو الانسحاب الاجتماعي.
- اضطراب الشخصية بجنون الارتياب (Paranoid PD): عدم ثقة وشكوك عامة في الآخرين، مع افتراض أن دوافعهم خبيثة.
- اضطراب الشخصية الفصامية (Schizoid PD): انفصال عن العلاقات الاجتماعية ومحدودية في التعبير العاطفي.
- اضطراب الشخصية الفصامية النمطية (Schizotypal PD): ضيق في العلاقات الشخصية، تشوهات معرفية أو إدراكية، وسلوك غريب.
2.2. المجموعة ب: الدرامية، المتقلبة، أو غير المنتظمة
تتميز هذه المجموعة بالدرامية، الاندفاعية، والتقلبات العاطفية.
- اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (Antisocial PD): تجاهل شامل لحقوق الآخرين، غياب التعاطف، والاندفاعية، غالباً ما يُصاحبها سجل إجرامي.
- اضطراب الشخصية الحدية (Borderline PD - BPD): عدم استقرار في العلاقات، صورة الذات، والمزاج، مع اندفاعية شديدة، وميل لإيذاء الذات أو التفكير الانتحاري.
- اضطراب الشخصية الهستيرية (Histrionic PD): عاطفية مفرطة وسعي مبالغ فيه لجذب الانتباه.
- اضطراب الشخصية النرجسية (Narcissistic PD): تضخم في الإحساس بالذات، الحاجة المفرطة للإعجاب، ونقص التعاطف مع الآخرين.
2.3. المجموعة ج: القلقة أو الخائفة
تتميز هذه المجموعة بأنماط سلوك قلقة أو خائفة.
- اضطراب الشخصية الاجتنابية (Avoidant PD): كبت اجتماعي، شعور بالنقص، وحساسية مفرطة للنقد.
- اضطراب الشخصية الاتكالية (Dependent PD): حاجة مفرطة للرعاية، سلوك خاضع ومُلتصق، وخوف من الانفصال.
- اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية (Obsessive-Compulsive PD - OCPD): هوس بالنظام، الكمالية، التحكم، على حساب المرونة والكفاءة (مختلف عن اضطراب الوسواس القهري OCD).
3. استراتيجيات التعامل والعلاج
تُعد اضطرابات الشخصية من أصعب الاضطرابات النفسية في العلاج نظراً لكونها أنماطاً راسخة، ولكن مع العلاج المناسب والمثابرة، يُمكن للأفراد تعلم استراتيجيات للتأقلم وتحسين جودة حياتهم.
3.1. العلاج النفسي (Psychotherapy)
يُعد العلاج النفسي هو العلاج الأساسي لاضطرابات الشخصية. الهدف هو مساعدة الأفراد على فهم أنماط سلوكهم غير الصحية، تطوير مهارات تأقلم جديدة، وتحسين العلاقات.
- العلاج السلوكي الجدلي (Dialectical Behavior Therapy - DBT): يُعتبر الأكثر فعالية في علاج اضطراب الشخصية الحدية (BPD). يُركز على تعليم مهارات تنظيم المشاعر، تحمل الضيق، الوعي اللحظي (اليقظة الذهنية)، والفعالية في التعامل مع العلاقات[2].
- العلاج المعرفي السلوكي (CBT): يُساعد الأفراد على تحديد وتغيير أنماط التفكير والسلوكيات غير الصحية.
- العلاج المعتمد على التخطيط (Schema Therapy): يجمع بين عناصر العلاج المعرفي السلوكي، نظرية التعلق، وغيرها، لمعالجة الأنماط السلوكية العميقة التي تتشكل في الطفولة.
- العلاج الديناميكي النفسي (Psychodynamic Therapy): يُركز على استكشاف الدوافع والصراعات اللاواعية التي تُشكل أنماط الشخصية.
3.2. الأدوية
لا توجد أدوية مُحددة لـ علاج اضطرابات الشخصية نفسها، ولكن يُمكن استخدام الأدوية لـ إدارة الأعراض المصاحبة، مثل:
- مضادات الاكتئاب: لتقليل الاكتئاب، القلق، والاندفاعية.
- مثبتات المزاج: للتحكم في تقلبات المزاج الشديدة (خاصة في اضطراب الشخصية الحدية).
- مضادات الذهان بجرعات منخفضة: لتقليل التفكير البارانوي أو الأعراض الذهانية المؤقتة.
3.3. مجموعات الدعم
يُمكن أن تُوفر مجموعات الدعم بيئة آمنة للمصابين لتبادل الخبرات، الشعور بالانتماء، وتقليل العزلة، مما يُعزز عملية التعافي.
3.4. استراتيجيات التعامل للأسر
يُمكن أن يكون التعامل مع شخص مُصاب باضطراب في الشخصية أمراً صعباً. يُنصح بالآتي:
- التثقيف: تعلم كل ما يُمكن عن الاضطراب.
- وضع الحدود: تحديد حدود واضحة وصحية لحماية الذات.
- البحث عن الدعم: الانضمام إلى مجموعات دعم الأسر أو طلب المشورة الفردية.
- تشجيع العلاج: دعم الشخص في سعيه للعلاج المهني.
الخاتمة: رحلة التعافي والتغيير
تُعد اضطرابات الشخصية تحدياً معقداً يُؤثر على الأفراد وعلاقاتهم بشكل كبير. ومع ذلك، من خلال التشخيص الدقيق، والالتزام بـ استراتيجيات العلاج النفسي الفعالة، خاصة العلاج السلوكي الجدلي، يُمكن للأفراد تعلم مهارات جديدة، تغيير أنماطهم السلوكية غير الصحية، وبناء حياة أكثر استقراراً وإرضاءً.
التعافي من اضطراب الشخصية رحلة طويلة تتطلب الصبر، المثابرة، والدعم. إذا كنت تُعاني أنت أو شخص تُعرفه من أعراض اضطراب في الشخصية، فلا تتردد في طلب المساعدة من أخصائي صحة نفسية مؤهل. الأمل في التغيير والعيش بجودة حياة أفضل حقيقي وممكن.
تذكر، أن طلب المساعدة هو خطوة شجاعة نحو فهم الذات وبناء مستقبل أفضل.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل اضطراب الشخصية الحدية (BPD) هو نفسه الاضطراب ثنائي القطب؟
لا، على الرغم من أن كليهما يُسببان تقلبات مزاجية، إلا أنهما مختلفان. الاضطراب ثنائي القطب هو اضطراب مزاجي يتميز بنوبات اكتئاب وهوس أو هوس خفيف. اضطراب الشخصية الحدية هو اضطراب في تنظيم المشاعر، صورة الذات، والعلاقات، مع تقلبات مزاجية سريعة ومتكررة غالباً ما ترتبط بمحفزات خارجية.
هل يُمكن لشخص مُصاب باضطراب الشخصية النرجسية أن يُصبح أفضل؟
نعم، يُمكن لأي اضطراب في الشخصية أن يتحسن مع العلاج المناسب. التحدي في اضطراب الشخصية النرجسية هو أن المصابين غالباً ما لا يُدركون أن لديهم مشكلة ويُقاومون العلاج. ومع ذلك، إذا سعوا للعلاج (غالباً بسبب مشاكل في العلاقات أو الاكتئاب)، يُمكنهم تعلم كيفية إدارة سلوكياتهم وتحسين علاقاتهم.
لماذا يُعد العلاج السلوكي الجدلي (DBT) فعالاً في علاج اضطراب الشخصية الحدية؟
يُعد DBT فعالاً لأنه يُركز على تعليم المهارات الأساسية التي تُعاني منها المصابون بـ BPD، مثل تنظيم المشاعر، التعامل مع الأزمات، وتحسين العلاقات الشخصية. يُساعدهم على التعامل مع المشاعر الشديدة والاندفاعية بطرق صحية أكثر.
هل أدوية الاكتئاب تُعالج اضطرابات الشخصية؟
لا، الأدوية بشكل عام لا تُعالج اضطرابات الشخصية بشكل مباشر. هي تُستخدم لـ إدارة الأعراض المصاحبة مثل الاكتئاب، القلق، أو تقلبات المزاج الشديدة التي قد تُصاحب اضطراب الشخصية، ولكن العلاج النفسي هو حجر الزاوية في معالجة أنماط الشخصية الأساسية.
هل يُمكن أن تتغير اضطرابات الشخصية بمرور الوقت؟
نعم، على الرغم من أنها تُعتبر أنماطاً ثابتة، إلا أن الدراسات تُظهر أن أعراض اضطرابات الشخصية، خاصة اضطراب الشخصية الحدية، يُمكن أن تتحسن بشكل ملحوظ بمرور الوقت ومع العلاج المناسب، وبعض الأفراد قد لا يُعاد تشخيصهم بالاضطراب بعد سنوات من العلاج.
المراجع
- ↩ American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and statistical manual of mental disorders (5th ed.). Washington, DC: Author.
- ↩ Linehan, M. M. (1993). Cognitive-behavioral treatment of borderline personality disorder. Guilford Press. Retrieved from https://psycnet.apa.org/record/1993-97368-000
COMMENTS