الجمعة، 13 يوليو 2018

أهمية دراسة السنة والسيرة النبوية وفوائدهم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد فإن من فضل الله عز وجل علينا أن نتدارس هذا الموضوع المهم الذي تبرز أهميته في عدد من الأمور:
أولها: أن دراسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته فيها عِبَرٌ، وفيها مواعظُ، وفيها تقويةٌ للإيمان.
وثانيها: أن اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسير على طريقته سبب من أسباب محبة الله للعبد كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [سورة آل عمران: الآية 31] وفيها مغفرة للذنب لقوله: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [سورة آل عمران: الآية 31].
وفيها أيضًا هداية للصراط المستقيم كما في قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [سورة الأعراف: الآية 158]
وفيها أمن من الضلال وأمن من العقوبة والفتنة كما في قوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [سورة النور: الآية 63].
وفي دراسة مكانة السنة ومنزلتها من التشريع تَمْيِيزٌ لِمَا يعتبر دليلاً شرعيًّا عما ليس كذلك، وبها نرد على بعض أولئك الذين يتكلمون أو يكتبون كتابات فيها رد لشيء من الأحاديث النبوية مما يخشى من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
تعريف السنة:
ويراد بالسنة في لغة العرب الطريقة المتبعة كما قال القائل:
فَلا تَجْزَعَنْ مِنْ سِيرَةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا
فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وأما السُّنة في اصطلاح أهل العلم: فإن المشهور عند المحدثين وغيرهم: أن السنة هي ما أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل وتقرير، وصفة خَلْقية وخُلُقية.
وأهل الأصول يقولون: السُّنة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والإقرارات.
وقد يطلق لفظ السنة ويراد به ما يقابل البدعة، ولذلك يقال: هؤلاء أهل السنة ويقابلهم أهل البدعة، وهذا طَلاق سُنِّي، وهذا طَلاق بِدْعي.
فالسنة على ذلك تكون هي الطريقة المشروعة في مقابلة البدعة التي هي الطريقة المخترعة في الدين.
وقد يطلق لفظ السنة ويراد به الأمر المستحب، وعلى كلٍّ فسنة النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءت النصوص بجعلها مصدرًا من مصادر الأحكام الشرعية، ويأمر أهل الإيمان باعتقاد حجيتها، وأنها من الأدلة الشرعية، والنصوص في ذلك كثيرة متتابعة تدل على حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أدلة على حجية السنة:
ومن أدلة حجية السنة قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [سورة الأحزاب: الآية 36].
فهذه الآية فيها دلالة على أن منزلة الإيمان عند العبد بمنزلة قبوله للسنة، وقبوله لِمَا ورد في الكتاب وتطبيقه لهذين الأصلين وانظر إلى قوله تعالى مرة أخرى حيث قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا﴾ [سورة الأحزاب: الآية 36].
فدل هذا على أن العبد إذا أراد أن يقيس الإيمان عنده فلينظر هل إذا جاءته السنة أو جاءته الآية بادر إلى امتثالهما والسير عليهما أو بقي في قلبه شيء منهما، ولم يبادر إلى ذلك؟!
أيضًا من الأدلة الدالة على حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم قوله جل وعلا: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [سورة الحشر: الآية 7] ففي هذه الآية دلالة على حجية السنة النبوية الواردة عن نبينا صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قول الله جل وعلا: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة: الآية 151] فالكتاب: هو القرآن، والحكمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن الله جل وعلا جعل العلامة الفارقة بين المؤمنين والمنافقين هي هذه العلامة والتي هي المبادرة إلى السير على السنة.
أهل السنة وأهل الإيمان يسيرون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل النفاق يُعْرِضون عن سنة هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك كما في قوله جل من قائل: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [سورة البقرة: الآية 170]
وكقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [سورة النساء: الآية 61 – 64]
كذلك من الأدلة الدالة على حجية السنة النبوية ما ورد من النصوص أن ما يخرج عن النبي صلى الله عليه وسلم وحيٌ من الله، ما يخرج منه من الأقوال، وما يفعله من الأفعال فهو وحي ؛ قال تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [سورة النجم: الآية 3 – 4]
بل إن الله جل وعلا أمرنا عند التنازع أن نرجع إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم لتكون حكمًا في القضايا التي نختلف فيها قال تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [سورة النساء: الآية 59]
فالمؤمنون يردون إلى الله، بمعنى أنهم يردون قضايا النِّزاع والاختلاف إلى كتاب الله القرآن العظيم، ويردون إلى الرسول، وذلك بعد وفاته، ويراد بذلك سنته صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة الدالة على حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم النصوص الآمرة بطاعة هذا النبي الكريم، قال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ﴾ [سورة آل عمران: الآية 32] وقال جل من قائل: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ﴾ [سورة النور: الآية 54] وقال أيضًا: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [سورة النساء: الآية 59].
والنصوص في الأمر بطاعة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كثيرة متعددة، ويدلك على حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيرًا من النصوص القرآنية لا يمكن أن نعمل بها إلا من خلال فهمنا لمدلولها الوارد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، انظر لقول الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [سورة البقرة: الآية 43] كيف نصلي؟ وكيف نُؤَدِّي هذه الشعيرة إن لم نكن عارفين بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته؟! لن نتمكن من أداء هذه الصلاة ؛ لأنه لم يأت في القرآن وصف للصلاة، وبيان لكيفياتها، ولذلك فلا بد من الرجوع إلى السنة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»(1)، وهكذا أيضًا فيما يتعلق ببقية الأعمال، خُذ مثلًا الحج ؛ أمر الله بالحج في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [سورة آل عمران: الآية 97]، كيف نحج؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِى هَذِهِ» (2) وكذا في الزكاة قال تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [سورة الأنعام: الآية 141]، ما هو الحق؟ وما هي الأموال التي تجب فيها الزكاة؟ وكيف نؤدي الزكاة؟ لقد بينت سنة النبي صلى الله عليه وسلم كل هذا، ولذا قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [سورة النحل: الآية 44]، فأرسل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجعل معه السنة ليبين معاني الكتاب ؛ حتى يكون هذا الكتابُ واضحًا عند الخلق معروفًا لديهم.
ومن الأدلة الدالة على حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن الاحتجاج بسنته يُعَدُّ من مقتضى الإيمان بكونه رسولاً من رب العالمين ويعد تصديقًا لقوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ﴾ [سورة الفتح: الآية 29] وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سورة سبأ: الآية 28]، ونحو ذلك من النصوص.
فمن مقتضى هذا أن نتحاكم إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأن نعمل بها ؛ لأن من مقتضى كونه رسولاً أن يكون صادقًا في أقواله، صادقًا في أفعاله، مُبَلِّغًا لشريعة رب العالمين، مؤديًا لأحكام الله، ومن هنا فلا بد من العمل بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
معرفة السنة ومعرفة العمل بها:
كيف نعرف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته من أجل أن نمتثلها وأن نسير عليها؟
نقول: سنة النبي صلى الله عليه وسلم مقيدة ومسجلة ومدونة بين أيدينا، ليس عندنا فيها لبس، وليس عندنا فيها أي اضطراب، ولذلك ينبغي لنا الرجوع إلى علماء الشرع ليبينوا لنا سنة هذا النبي الكريم، وأن نرجع إلى كتب أهل العلم المؤلفة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، ومن ذلك كتب الصحيحين البخاري ومسلم، ومن ذلك أيضا كتب السنن، فقد ورد فيها بيان طريقته صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة في غالب هذه السنن، ومن فضل الله عز وجل علينا أن جعل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ينقلون كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء في صغائر الأعمال أو في الأعمال الكبيرة، حتى إنهم في هديه صلى الله عليه وسلم اعتنوا بطريقة أصابعه وأصابع قدميه وطريقته في الألفاظ والكلام.
انظر مثلا أخبروا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من صلاة الليل قال: «سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ»(3) ثلاث مرات، يمد صوته في الثالثة.
انظر كيف ميزوا طريقة صوته في القراءة، قراءة القرآن، وكيف يقرأ الآيات القرآنية، كل ذلك نقلوه إلينا نقلا واضحًا مستبينًا، كان يمد قراءة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [سورة الفاتحة: الآية 2] كما نقل ذلك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلوا أيضًا طريقة وضعه للأصابع في سجوده، حتى أصابع قدميه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يلصق أصابع قدميه بالأرض، ويجعلهما تجاه القبلة، لقد حرصوا على نقل هدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى في وضع أصابعه.
ولذلك فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مضبوطة، ومن هنا ينبغي لنا أن نستفيد من هذا التراث النبوي الذي نقله لنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا تقرر هذا فإنه لا يجوز لنا أن نتعبد لله بعبادة لم يأت بها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذا الدين كامل، ومن مقتضى كماله ألا يكون هناك عبادة إلا وقد وردت في هذه الشريعة.
دلائل كمال الشريعة:
من دلائل كمال هذا الدين قوله تعالى: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [سورة المائدة: الآية 3] وقوله جل وعلا: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ [سورة النحل: الآية 89].
ومن أدلة عدم جواز الإتيان بعبادة جديدة ليست واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، تلك النصوص الكثيرة الآمرة باتباع هذا النبي، فإن من مقتضاها ألا نعبد الله إلا باتباعه، وألا نبتدع عبادات جديدة، ولذلك قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [سورة الشورى: الآية 21] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ»(4).
ولذلك لا يجوز لأحد أن يأتي بعبادة جديدة لم تكن مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: العبادة لله عمل صالح، فلماذا لا تشجعوننا عليها؟ قيل له: عبادة الله لها شروط، إن لم توجد فيها الشروط الشرعية تَكُن مردودةً غيرَ مقبولةٍ، ولذلك من صلى بدون طهارة فصلاته غير مقبولة، بل يأثم بها، وكذلك لو صلى إلى جهة غير جهة القبلة عامدًا فهو آثم في هذه الصلاة ؛ لأنه لم يفعل هذه العبادة على وجهها المشروع، وهكذا إذا جاءنا إنسان بعبادة غير واردةعن النبي صلى الله عليه وسلم فإنها حينئذ تكون مردودةً،غيرَ مقبولةٍ عند الله جل وعلا، ما الدليل على ذلك؟ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ»(5). أي: مردود على صاحبه.
شبهات حول السنة والرد عليها:
هناك أناس منافقون يشككون في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويتكلمون بهذه الشكوك ويكتبونها وينشرونها في الصحف ووسائل الإعلام خصوصًا في عصرنا هذا الذي كثرت فيه هذه الوسائل، ودخلت على الناس في بيوتهم، ونحن نحذر من تلك الوسائل المشككة، فلا بد من حصانة تَقِينا من مثل هذه المعتقدات الفاسدة التي تَرُدُّ سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
تجد بعض هؤلاء المشككين إذا عُرِضت عليه السنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم رَدَّها وقال: حسبنا كتاب الله، ما وجدناه في كتاب الله عَمِلْنا به، ولا نحتاج إلى شيء غيره ؛ لأن كتاب الله كافٍ، فمثل هذا يقال له: إن الكتاب قد دل على حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومِن ثَمَّ فإذا عَمِلْنا بالقرآن فإن القرآن يدلنا على حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [سورة الحشر: الآية 7] ولأننا لا نتمكن من تطبيق العديد من الأحكام الشرعية الواردة في القرآن إلا بمعرفة السنة، ككيفية الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك من الأعمال المأمور بها في كتاب الله جل وعلا.
لذلك نقول: إن هذه المقالة مقالة رديئة مردودة على صاحبها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ أُلْفِينَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ».(6) وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على صاحب هذه المقالة بقوله: «أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»(7)، يعني سنته صلى الله عليه وسلم.
وتجد بعضهم يستشهد بحديث وارد من قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»(8) ثم يقول: لن نعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم!! فنقول له: كيف تستدل بما لا ترى حجيته؟! فهذا تناقض.
ثم لا بد لنا أن نأخذ بالحديث دون أن نبتدره من سياقه ولا ينبغي أن نعزله عن سبب قوله، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم يلقحون النخل، فأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم عن ظنه فقال: ما أظن أنها تفيدها شيئًا. فهذا إخبارٌ عن ظنه، وليس إخبارًا بحكم شرعي، فتركوا التلقيح، ولم يقل لهم: اتركوا التلقيح. فأتى الثمر شيخًا يابسًا لا يؤكل، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكون من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»(9)،إذا أخبرتكم بالشيء عن ظني فهذا مني، وإذا أخبرتكم بالشيء عن الله عز وجل فاقبلوا أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لا يصح الاستدلال بهذا الحديث في أمور الشريعة ؛ لأن هذا الحديث في سياقه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخبر بحكم الشرع من الله وجب على الأمة قبول ما جاء به والعمل به.
ومن حجج بعض هؤلاء أنه يقول: أنا عندي عقلي، فما جاءني من الأحاديث عرضته على العقل، فإن قبله عملت به، وإن لم يقبله، فأنا لن أعمل به. فحينئذٍ يكون مُكذِّبًا للنصوص الدالة على حجية السنة وأنها من مصادر التشريع، غيرَ عاملٍ بها، ومثل هذه المقالة مقالة فاسدة وليست بصحيحة ؛ لأن عقل الإنسان يعتريه النقص، وتأتيه الشيطان فيلقي فيه الوساوس، وحينئذ قد يَرُدُّ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما كان صحيحًا.
ويجب أن نعلم أنه لا توجد سنة صحيحة تعارض معقولاً صحيحًا، لكن الخطأ إما في ضعف الحديث، وإما في توهم الناس.
فأمثال هؤلاء يقولون على ما يجدونه في عقولهم من الأوهام: إنه من المعقولات الصحيحة. ولا يكون الأمر كذلك، ولذلك نجد أن الإنسان يختلف في آراءه ومعقولاته عن غيره، ولو كان ما يتوصل إليه الإنسان صحيحًا بالعقل لكان ما يتوصل إليه جميع الناس واحدًا، لكن الناس يتفاوتون، بل إن المرء في وقت يتوصل إلى رأي بعقله، ثم في وقت آخر ينقض ذلك الرأي، ويظن بطلان رأيه الأول.
فمن ثَمَّ ما كان كذلك مما يظن أنه من المعقول، كيف تترك السنة الصحيحة من أجله؟
لا يمكن أن توجد سنة صحيحة معارضة لمعقول صحيح كما تقدم، ولذلك وجدنا في أزماننا وأزمانٍ مضت بعض الناس يشكك في بعض الأحاديث النبوية من هذا المنطلق من كونها تعارض العقل، بل يوجد في بعض القنوات اليوم برامج مختصة بعرض الأحاديث النبوية ويقوم المقدم أو المذيع بردها عقلا، ويشكك فيها بناءً على ما يظنه أنه نوع من أنواع المعقولات، وهو في الحقيقة واهم غير مدرك.
وبعض الناس يحاول الطعن في السنة النبوية من خلال الطعن في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم هم أفضل الناس بإخبار النبي، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». (10)
وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِى، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ».(11)
وقد وردت الآيات القرآنية بفضل الصحابة، وعظم مكانتهم، ورفعة درجتهم ؛ كما في قوله جل وعلا: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [سورة التوبة: الآية 100].
وكما في قوله سبحانه: ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ﴾ [سورة الفتح: الآية 29].
فالنصوص القرآنية أثنت على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأحاديث النبوية.
وعندما يوجد من يطعن في بعض الصحابة كأبي هريرة وغيره لا بد أن نرد عليه وأن نبين مكانة هذا الصحابي ومنزلته، وأن نبين النصوص النبوية الواردة في مدحه رضي الله عنه.
ومما يقومون به من أجل التشكيك فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة أنهم يقولون: “إننا نجد العلماء يختلفون في بعض الأحاديث ؛ فمَرَّةً يقولون هذا حديث ضعيف. ومَرَّةً يقولون: هذا حديث صحيح. فماذا أفعل، كيف تريدونني أن أرجع إلى ما يقع الاختلاف في صحته من ضعفه؟
وبعضهم يقول: عندنا أحاديث مكذوبة موضوعة، فإذا كان هناك أحاديث موضوعة فكيف نعتمد على هذه الأحاديث التي يوجد فيها الموضوع؟
فنقول: إن الله جل وعلا قد سمى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ذِكْرًا، وبين أنها مُبيِّنة للقرآن مُوضِّحَة له، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [سورة النحل: الآية 44].
والله جل وعلا قد تكفل بحفظ هذا الذِّكْر، ومن حِفْظ القرآن أن يحفظ طريقة بيانه، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [سورة الحجر: الآية 9].
فمن مقتضى هذا أن السنة محفوظة، وأنه لا يمكن أن يوجد فيها حديث ضعيف أو موضوع ثم يلتبس على الأمة ولا يعرفون حقيقته، ولقد هيأ الله علماء جهابذة يعرفون الأحاديث، ويفتشون عنها تفتيشًا، ويعرفون أنواع العلل وأنواع الضعف الوارد فيها، فقد فتشوا عن أحوال الرواة واحدًا واحدًا، ولم يتركوا شيئًا من حال الرواة مما يُبَيِّن حُكْم روايتِه إلا عرفوه وبينوه للأمة.
بل إنهم كانوا يختبرون هؤلاء الرواة ويُورِدُون عليهم أحاديث بطرائق مقلوبة، فإن وجدوا هذا القلب قد انطلى عليهم، تركوا رواية ذلك الشخص ولم يعملوا بها. ولو كان فاضلاً، ولو كان قاضيًا، ولو كان فقيهًا، ولو كان ولو كان ؛ لأنهم وجدوا أنه يَهِمُ في الأحاديث ويخطئ فيها.
وبعض الرواة عَرَفوا أنه يُخْطِئ في موطن دون موطن، فبعض الرواة إذا حدث باليمن فحديثه مقبول، وإذا حدث بالعراق فحديثه ليس بتلك المتانة، كمَعْمَر ؛ لأنه عندما كان في اليمن كانت معه كتبه، فكان يراجعها ولا يحدث إلا بعد مراجعته لها، أما في العراق فإن كتبه لم تكن معه، فحدث من حفظه، فوقع في حفظه أوهام.
بعض الرواة يكون ثقة في نفسه، لكنه إذا روى عن بعض الرواة يقال عنه: إن روايته مضطربة، روايته عن غيره فيها ما فيها، فعاصم بن أبي النجود القارئ المشهور إذا حدث عن ذر أو أبي وائل فحديثه ضعيف، وإذا حدث عن غيرهم فحديثه حسن أو مقبول.
وإسماعيل بن عياش إذا روى عن أهل الشام – وهم أهل بلده – فروايته صحيحة، وإذا روى عن غيرهم فروايته مردودة.
الخلاصة أنهم يفتشون عن أحوال الرواة شيئًا فشيئًا، بل إنهم أصبحوا يقارنون رواية الراوي برواية غيره، فمثلاً الزهري له تلاميذ، إذا روى واحد من تلاميذه حديثًا، قُورِنت روايتُه برواية غيره، فإن وجدوها متوافقة، دل ذلك على ضبطه للحديث، وإن وجدوها غير متوافقة مع رواية غيره، قالوا: هذه رواية شاذة، غير معمول بها، وغير مقبولة. وإن كان الراوي ثقةً مقبول الرواية صحيحَ الأحاديث، إلا أنه في هذا الحديث قد شذ في روايته، ورُدت روايته هذه مع قبول غيرها من الروايات.
فالمقصود أن علماء السنة قد ضبطوا لنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فوجود الحديث الضعيف فيها الذي بَيَّنَ علماء الشرع ضعفه لا يصح أن يكون قَادِحًا في الأحاديث الصحيحة، ونضرب لذلك مثالاً: لو قال قائل: عندنا دواء مغشوش صنع للمرض الفلاني، مَن تناوله فإنه يموت، هل معناه أن جميع الأدوية يجب طرحها أو نطرح ذلك الدواء وما ماثله من الأدوية المغشوشة.
هكذا أيضًا فيما يتعلق بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد يقول قائل مِن هؤلاء: إن بعض الرواة يروي بالمعنى، ومن ثَمَّ قد يروي لنا أشياء لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
فنقول: إن الرواية بالمعنى لها شروط، مع أن الأفضل أن يؤدي العبد الأحاديث وفق ما سمعها، لا ينتقل إلى المعنى إلا إذا فات عن ذهنه اللفظة التي قد نقلت إليه ؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ».(12)
شروط الرواية بالمعنى:
أما شروط الرواية بالمعنى:
فأولها: ألا يكون الحديث واردًا فيما يتعبد بلفظه، فلا يأتِ إنسان وينقل أحاديث الأذان بالمعنى ؛ لأن ألفاظها مما يُتَعَبَّد بذاتها، وكذلك أذكار الصلوات لا تروى بالمعنى ؛ لأن ألفاظها مقصودة للشارع.
الشرط الثاني: أن يكون الراوي عارفًا بمدلولات الألفاظ لئلا يدخل في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منه ويُحَمِّلَه ما لا يحتمل.
الشرط الثالث: ألا يروي إلا بمعنى موافق، ولا يروي بمعنى فيه زيادة أو فيه نقصان، فالمقصود أن الرواية بالمعنى مضبوطة.
بعد هذا التوضيح لا يصح لنا أن نقدح في الأحاديث بسبب رواية بعض الرواة لبعضها بالمعنى.
فإن قال قائل: إن السنة لم تُدَوَّن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الكتابة، كتابة الأحاديث، ونَقْلُ هذه الأحاديث ليس نقلاً منضبطا. فنقول: هذه مقالة فاسدة وليست بصحيحة، وذلك لأن النهي عن الكتابة كان في أول عصر الإسلام، لكن في آخر حايته صلى الله عليه وسلم أذن بالكتابة وأجازها.
والْمَنْعُ من الكتابة في أول الإسلام كان لئلا تختلط الأحاديث بالآيات القرآنية، فلما استقرت الآيات القرآنية في النفوس وحفظتها القلوب ووعتها، حينئذ أجيز للناس أن يكتبوا الأحاديث، ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة عدد من الأحاديث، جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث بحديث طويل في فتح مكة، فقام رجل من أهل اليمن – يقال: له أبو شاه – فقال: اكتب لي يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ».(13)
ووجد صلى الله عليه وسلم عددًا من صحابته يكتبون الأحاديث فلم ينكر عليهم، ولذلك كان هناك عدد من الصحابة قد كتبوا صحائف احتوت على أحاديث نبوية، وأما كون التدوين لم يأت إلا في نهاية القرن الثاني، فالمراد به المؤلفات والكتب، أما الصحف التي فيها الأحاديث النبوية هذه كانت موجودة من عهد الصحابة، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه: “مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّى، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ”(14).
الأمر الآخر: أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم قد آتاهم الله من القدرات في حفظهم ووعيهم ما تمكنوا به من المحافظة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان عندهم من ضبط الأحاديث ما ليس عند غيرهم، وكان الراوي منهم يحدث بالحديث الواحد مرات متعددة في أوقات متفاوتة ولا يوجد في ألفاظه فرقٌ البتة.
ولذلك ورد في الأثر أن أحدهم قال: “حَدَّثنا العامَ بحديث كذا، فلما كان من السنة المقبلة حَدَّثنا بنفس ذلك الحديث بلفظه”.
وهكذا أيضًا فيما يتعلق بالتابعين، فالمقصود أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم عندهم من الخصائص والقدرات ما مكنهم من ضبط حفظ الأحاديث النبوية.
فإن قال قائل: إن هناك أحاديث تخالف القياس، ومن هنا نقدم القياس كما ورد ذلك عن بعض علماء الشريعة.
فنقول: إن القياس فرع الكتاب والسنة، ولا يصح أن نقدم الفرع، الذي هو القياس، على الأصل، الذي هو الكتاب والسنة ؛ لأن القياس فيه ظن المجتهد، والحديث الذي هو السنة فيه قول المعصوم صلى الله عليه وسلم، وقول المعصوم مقدم على الأقيسة.
وبعض هؤلاء الكتاب يقول: إن أكثر الأحاديث النبوية وردت بطريق الآحاد، ومن هنا فهي ظنية، ولا يصح لنا أن نعمل بالظن ؛ لأن النصوص نهتنا عن إعمال الظن كما في قوله تعالى: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ﴾ [سورة النجم: الآية 23].
فنقول: المراد بالظن في هذه الآيات مجرد الأوهام غير المستندة إلى أدلة، وأما الظنون المستفادة من الأحاديث فهي ظنون مستندة إلى أصول، ومن هنا يشرع لنا أن نعمل بها، والظن إذا كان مستندًا إلى أصل صحيح جاز العمل به ؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [سورة البقرة: الآية 230] انظر: كيف أسند إلى الظن في هذا الموقف.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا أَظُنُّ أَنَّ فُلاَنًا وَفُلاَنًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا».(15) فدل هذا على أن النهي عن الظنون إنما يراد به الظنون غير المستندة إلى أساس وأصل صحيح من الشرع.
وبعض الناس يَرُدُّ أخبار الآحاد فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل آحاد الناس بالكتب والأحاديث إلى أطراف البلدان ليدعوهم إلى التوحيد والإيمان، فدل هذا على أن خبر الواحد الثقة صحيح ويعمل به ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أرسل الواحد لأطراف البلدان إلا ليُعْمَل بقوله ونقله. ومن أدلة قبول خبر الواحد ما يفهم من قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [سورة الحجرات: الآية 6] حيث دلت الآية من مفهومها على أنه إذا جاء الثقة بنبإ وجب قبول قوله، ولا يصح لنا أن نقول: نتثبت. لأن الآية إنما أَمَرَت بالتثبت عند ورود خبر الفاسق.
ويدل على هذا قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [سورة التوبة: الآية 122] فأوجب الله على الأمة العمل بقول الطائفة أو بنقل الطائفة، مما يدل على أن قولهم معمول به وحجة في الشرع إذا نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقول بأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن ليس قولاً على إطلاقه، فجمهور أهل العلم يرون أن خبر الواحد إذا احتفت به القرائن فإنه يفيد العلم وخصوصًا في الأحاديث النبوية الواردة في السنة بأسانيد صحيحة كما في الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم فإن الأمة قد تلقت ما فيهما بالقبول، خاصة ما يترتب عليه فرض،، وأجمعت على الجزم بصحة ما فيهما إلا أحرفًا يسيرة وردت في الكتابين. ويدل على هذا عدد من الأدلة:
أولها: أن الله قد تكفل بحفظ كتابه، ومن مقتضى حفظ الكتاب حفظ الْمُبَيِّن له، وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن السنة لها من البهاء والنور ما لا يختلط معها غيرها، ثم إن الله قد قيض الصحابة والتابعين وهم متاوفرون لينقلوا هذه السنة احتسابًا للأجر، ثم إن الله قد هيأ لهذه الأمة علماء مُحَدِّثين يُفرِّقون بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة، ويُمَيِّزون أحوال الرواة، فكل هذا دليل على أنه لا يمكن أن يوجد في السنة حديث لم يُبَيَّنْ حالُه، فلا يوجد في السنة حديث مكذوب أو موضوع إلا ويوجد في الأمة مَن يُبَيِّن حقيقة هذا الحديث.
فالصواب أن أخبار الآحاد الصحيحة في السنة النبوية مفيدة للعلم والجزم، وإن كان الجزم تتفاوت درجاته ومراتبه، فليس القطع على مرتبة واحدة.
ويترتب على مسألة أخبار الآحاد ما يَرِدُ في باب العقائد من إثبات الصفات، فإن من معتقد أهل السنة أنه إذا وَرَدَهم شيء من صفات الله جل وعلا في الكتاب والسنة آمنوا به وأثبتوه، فإننا نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك نثبت ما ورد في الأحاديث النبوية من صفات رب العالمين أو من مسائل العقائد، ويدل على هذا عدد من الأدلة:
أولها: عموم النصوص الدالة على حجية خبر الواحد في السنة النبوية.
وثانيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل الدعاة الآحاد إلى أقطار الدنيا يدعون الناس إلى أصل المعتقد وهو أن يقولوا: لا إله إلا الله، ويشهدوا الشهادتين، فكانت تقبل أخبارهم، ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يصحح إيمان مَن آمن بناء على قول مرسل واحد، ولا يطالبهم بتحصيل يقين آخر غير ما حصلوه سابقًا.
ويدل على هذا إجماع الأمة على نقل أخبار الآحاد عن النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في المعتقد، ولا يوجد من أصحاب المعتقدات أحد لا يستدل بشيء من أخبار الآحاد، لكن بعضهم يستدل بهذه الأحاديث على خلاف مدلولها، فيستدل بقوله: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ… إلخ» (16). على مسألة التكفير، كما يقول الوعيدية.
ويستدل الآخر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما مِن عَبْدٍ قال: لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ. ثم ماتَ عَلَى ذَلِكَ إلاَّ دخَلَ الجنَّةَ» (17). على أن الإيمان قول ولا يَضُرُّ معه معصية، كما يقول المرجئة. لكنَّ أهل السنة يجمعون هذه الأحاديث ويعملون بها جميعًا ولا يُقَدِّمون بعضها على بعضها الآخر.
ومن الأمور المتعلقة بهذا أن بعض هؤلاء الكتاب أو الإعلاميين يتكلمون على كتب مروية بأسانيد صحيحة ككتب السنة المشهورة ويريدون أن يشككوا الناس فيما ورد فيها، ومثل هذا غير مقبول منهم ؛ لأنهم أولاً ليسوا من أهل التخصص، ولا يمكن أن نَقبل قول قائل إلا في تخصصه، لو جاءنا إنسان غير طبيب وتكلم في مجال الطب رُدَّ عليه وقيل له: اسكت ليس هذا مجالاً تتحدث فيه، وليس هذا تخصصك الذي تتمكن من الحديث فيه. وهكذا أيضًا فيما يتعلق بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا يصح للناس أن يعتمدوا فيها على غير قول أهل الثقة.
إذا تقرر هذا فعلينا أن نعلم أن من فضل الله عز وجل علينا أَنْ جعل سنة النبي صلى الله عليه وسلم شاملةً ففيها كيفية تعامل الإنسان مع نفسه، وكيفية عبادته لربه، وكيفية بره لوالديه، وكيفية صلته لرحمه، وكيفية مأكله ومشربه، وكيفية معاملاته المالية، وفيها كل ما يخص جميع حياة الإنسان، ولذلك ينبغي على المرء أن يكثر من مطالعة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ليتمكن من تطبيقها على نفسه.
ولو عَمِل أهل الإسلام بسنة هذا النبي الكريم في جميع أمورهم لكان ذلك سببًا لرضا رب العالمين، وسببًا لعلو الدرجة في الجنة، وسببًا لمغفرة الذنوب، ولكان ذلك سببًا للسعادة في الدنيا، بوفرة الأرزاق وإدرار النعم فيها، ويَرِدُ على الناس من النقص بمقدار ما تركوا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على أنواعٍ متعددة من سُنَّة قولية وفعلية وتقريرية وخُلُقِيَّة… إلخ ؛ وتتكون السنة وكتب الحديث من شيئين:
الأول: الإسناد.
والثاني: المتن.
فالإسناد المراد به: الرواة الذين نقلوا الحديث واحدًا عن واحد.
والمتن: وهو ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والتقريرات.
فالنظر في الإسناد يكون لعلماء الشرع في الحديث الذين يميزون بين صحيح السنة وضعيفها، ويعرفون أحوال الرواة ويعرفون المقبول منهم من المردود.
والنظر في متن السنة يكون لعلماء الفقه الذين يعرفون القواعد الأصولية التي يُتَمَكَّن من الاستنباط منها، وهناك أشياء يتمكن من معرفتها أفراد الناس.
ونورد أمثلةً لسنن النبي صلى الله عليه وسلم:
هناك مثلاً سنته في الطعام: «يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلّْ مِمَّا يَلِيكَ».(18)
وفي هذا الحديث قاعدة أصولية: وهي أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أمته يعد خطابًا لجميع الأمة إلى قيام الساعة، فلا يأتِ إنسان ويقول: هذا خطاب لهذا الغلام فقط، وبالتالي لا يلزمنا أن نقول. وهذا لا يصح فالأصل في أحكام النبي صلى الله عليه وسلم الشمول والعموم لتعم جميع أفراد الأمة.
القاعدة الثانية المتعلقة بهذا: أن الأصل مشروعية الاقتداء بالأفعال النبوية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أنواع السنة:
يمكن تقسيم السنة النبوية إلى أنواع كما مر بنا ؛ فمنها:
السنن القولية:
من أمثلتها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».(19) فهذه سنة قولية، والسنن القولية كثيرة، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»(20)، ولا إشكال في حجية السنة القولية، وأنه يجب اعتقاد أنها من أنواع التشريع، وإذا كان الوارد فيها أمرًا وجب علينا العمل بما فيها.
السنن الفعلية:
ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم يؤخذ منه أحكام وتشريع، وذلك أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على أنواع:
النوع الأول: القربات والعبادات التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه حجة، والأصل أنه مستحب أن يفعل العبد مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا هو الأصل، وقد يكون بعض هذه الأفعال وَاجِبًا، كأن يكون ذلك الفعل بيانًا لواجب ؛ فيكون داخلاً في الوجوب ؛ كأفعال النبي صلى الله عليه وسلم في مناسك الحج، الأصل أنها واجبة لحديث: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِى هَذِهِ»(21)
النوع الثاني: السنة الجبلية التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم لا لأجل القربة والعبادة، وإنما فعلها لأن أهل زمانه يفعلونها، فمثل هذا الأصل أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على إباحته، كلبس النبي صلى الله عليه وسلم للعمامة والإزار وغير ذلك من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الجبلية، فمثل هذه الأفعال تصبح أفعالاً مباحة يجوز لنا أن نفعلها، لكن لا يجوز لنا أن نتقرب لله بها.
والسؤال: لماذا لا يجوز لنا أن نتقرب لله بها والنبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها؟! أليس من محبة النبي صلى الله عليه وسلم أن نفعل مثل فعله؟!
نقول: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على جهة الجبلة والعادة، هو يفعله ظاهرًا، ولا ينوي به التقرب لله، فمن جاءنا ينوي به التقرب لله، قلنا: أنت وإن وافقت في ظاهرك فعل النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنك في الباطن قد خالفت هدي النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد فعله عادة وأنت تفعله عبادة.
وهناك من أفعال السنة النبوية أيضًا ما يكون خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقوم الدليل ببيان خصوصيته، كزواج النبي صلى الله عليه وسلم بتسع، وما ورد في قوله تعالى: ﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الأحزاب: الآية 50]
فإذا تقرر هذا فإن الأصل في الأفعال النبوية أن تكون سنة يُقْتَدَى بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها، إلا أن يقوم دليل يدل على أن ذلك الفعل من الخصوصيات، أو أن ذلك الفعل من الأمور الجبلية، فلو جاءنا إنسان وقال: هل جلسة الاستراحة من الأمور الجبلية ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جلسها في آخر حياته، فجلسها لثقله ولمرضه فلم يقصد بها التعبد أو جلسها تَعَبُّدًا وتَقَرُّبًا لله؟
فهذا موطن خلاف بين الفقهاء، وعلى التقعيد الأصولي أن الأصل في الأفعال النبوية أنها سنة ولا ينتقل لجعلها جبلةً وعادة إلا بدليل.
ومما يتعلق بهذا الباب أنه إذا وقع تعارض بين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله فإن الأصل أن نحاول أن نجمع بينهما، وأن نعمل بالدليلين ؛ لأن إعمال الدليلين خيرٌ من طرح أحدهما ؛ ولذلك لما واصل النبي صلى الله عليه وسلم الصوم، وكان قد نهاهم عن الوصال في الصوم بقوله: «إِيّاكُمْ والْوِصال». مرَّتيْنِ، قِيل: إِنَّك تُواصِلُ. قال: «إِنِّي أبِيتُ يُطْعِمُنِي ربِّي ويسْقِينِ، فاكْلفُوا مِن الْعملِ ما تُطِيقُون» (22). ولم يقل لهم: لا يصح لكم أن تعترضوا على أقوالي بأفعالي، وإنما بَيَّن لهم معنًى خاصًّا وهو أنه يبيت يُطْعَم من قِبَل الله عز وجل ويُسْقَى.
فالأصل أن نحمل القول على مَحَلٍّ، وأن نَحْمِلَ الفعل على مَحَلٍّ آخر، ولذلك لما ورد النهي عن الصلاة في الكعبة، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، قلنا: الفعل يحمل على النافلة، والنهي يحمل على الفريضة والمكتوبة.
السنة التقريرية:
التقرير الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم على نوعين:
النوع الأول: إقراره لقُرْبَة وعبادة فَعَلَها بعض أصحابه، فهذا يعتبر سُنَّةً يشرع الاقتداء به فيها ؛ مثل سنة القتل فإنها قد بلغت النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها ؛ لَمَّا فعلها حبيب بن عدي.
والنوع الثاني: ما فعله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المباحات، فهذا يدل على إباحته.
أنواع السُّنَّة بالنسبةِ للكتاب:
سُنَّة مُؤكِّدة لِمَا في الكتاب: من مثل قوله جل وعلا: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [سورة البقرة: الآية 183] إلى قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [سورة البقرة: الآية 185]. فهذا قد ورد في السنة ما يؤكده من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام شهر رمضان.
سُنَّة مُخَصِّصة لِمَا في الكتابِ: بحيث تكون الآية عامة، فتأتي السنة وتخصص الآية في بعض المواقف، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [سورة التوبة: الآية 34] فهذه الآية عامة في إيجاب الزكاة في الذهب والفضة في القليل والكثير، ثم جاءت السنة تبين أن هناك نِصابًا مُعينًا لا تجب الزكاة إلا بملكه، فالذهب لا يجب إلا بملك عشرين مثقالاً، والفضة لا تجب الزكاة فيها إلا بملك مائتي درهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَفِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَالُ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا».(23) والرقة الفضة، وتجب الزكاة فيها إذا بلغت مائتي درهم.
سُنَّة مُبَيِّنة لِمُجْمَل الكتاب: كقوله تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [سورة الأنعام: الآية 141] جاءت السنة تُبَيِّن مقدار هذا الحق كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِىَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ».(24)
ومن أنواع السنة: السنة المستقلة التي تأتي بتشريع جديد ليس في الكتاب، من مثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية.
وهناك نوعٌ آخر وهو السنة الناسخة لِمَا في الكتاب كما يقول بذلك طائفة من أهل العلم: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ [سورة البقرة: الآية 178 – 180] هذه نسخت عند طائفة من أهل العلم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»(25)، والذي أؤكد عليه هنا ضرورة مراجعة السنة، لنعمل بها فننجو بإذن الله عز وجل من مصائب عديدة في آخرتنا ودنيانا، وأن نحذر من رد شيء من السنة، فإن الله تعالى قال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [سورة الحجرات: الآية 1] ومن أنواع التقدم رد شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك في الآية التي بعدها نهانا عن رفع الصوت على صوت النبي صلى الله عليه وسلم وعلل ذلك بقوله: ﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [سورة الحجرات: الآية 2] فقد يحبط عمل الإنسان بسبب رده لحديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ من صفات أهل النفاق عدم الرضا بما يَرِدُ عن هذا النبي الكريم وعدم تحكيمه في جميع أمورهم، ولهذا قال تعالى عن المنافقين: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا﴾ [سورة النساء: الآية 61]
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من المطبقين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أمورهم، كما أسأله جل وعلا أن ينصر السنة، وأن يعم بها، وأن يوفق ولاة أمورنا لكل خير، وأن يجعلهم هداة مهتدين، وأن يصلحهم ويصلح بهم، وأن يجعلهم أسباب هدى وتقى وسعادة وصلاح للناس كافة، وصلى الله على نبينا محمد.
وقال جل وعلا: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [سورة الأعراف: الآية 157].
إذن فالفلاح معلق باتباع النور الذي جاء به، والهدى الذي بُعِث به، أنزل عليه القرآن فبَلَّغه، بَلَّغ ألفاظ القرآن وبَيَّن معانيها، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة النحل: الآية 44].
والعمل بالسنة واجب، والإيمان بها وتطبيقها والدعوة إليها والذب عنها وحمايتها أمورٌ واجبة، الله يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [سورة الحجر: الآية 9] فحفظ الله القرآن من أن تمتد إليه أيدي العابثين زيادة أو نقصانًا، وحَفِظ السنة فهيأ لها الرجال الصادقين المخلصين الناصحين، فحملوها بقوة وحفظوها، وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها، وأوضحوا المكذوب والموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كتبوها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ الناس بالسنة، وكان يشتغل اللَّيْلَ بدراستها حتى أوصاه النبي أن يوتر قبل أن ينام، وكان عبد الله بن عمرو يكتب السنة وغيره، ثم تطورت الكتابة إلى أن أمر عُمَرُ بنُ عبد العزيز بكتابتها، ثم تبارى الناس في ذلك.
وبحوث السنة ضبطت ضبطًا جيدًا، ووضع العلماء القواعد لمن يقبل قوله من رجالها ومن يُرَدُّ قوله من بعد الصحابة، وجُعِلوا ميزان عدل وقسط يدينون لله به، فحفظوا هذه السنة، وضبطوها ونظموا شأنها، وقربوها للإنسان من خلال المسانيد، والسنن والترتيب والتنظيم، طهر الله أئمة الإسلام وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
إن أعداء السنة ليسوا وليدي اليوم، هم قدماء، فالخوارج طعنوا في السنة، وقدحوا فيها، وشككوا في حملتها إلى أن عطلوا كثيرًا منها، ما رأوا رجم الزاني، ولا رأوا كذا ولا رأوا كذا، كل ذلك زعمًا منهم تمسكًا بالقرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من أن ذلك، فبعض الناس يقول: ما في القرآن قَبِلناه وما ليس في القرآن لم نقبله، هؤلاء هم الضالون، وإن بعض المعاصرين سلكوا مسلك الخوارج، فقالوا: إن أخبار الآحاد لا تقبل، وشككوا وقالوا: يقدم العقل على السنة، فإن تعارض العقل والسنة، قُدِّم العقل عليها. وهذا والله من الضلال، فهذا مذهب المعتزلة الذين ضلوا عن سواء السبيل، والذين طعنوا في السنة وحكموا عقول الرجال عليها، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قبولها ورضوا بها وطبقوها على أنفسهم ولم يسمحوا لأحد بمعارضتها بأي سبيل كان.
حدث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ».(27) فقال ابنه بلال: “والله لَنَمْنَعُهُنَّ” يعني غيرةً لله، قال الراوي: فسبه عبد الله سبًّا ما سمعته سبه مثله قَطُّ، وقال: أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: “لنمنعهن”. فوالله لا أكلمك أبدًا.
فهو أراد منعهن غَيْرةً، فغضب منه أبوه ؛ لأنهم لا يريدون أن تُرَدَّ السنة بالآراء، بل يوجبون القبول والسمع والطاعة، والرضا والانقياد.
وعن عبد الله بن مغفل أنه رأى رجلا يخذف، فقال له: لا تخذف، فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف وقال: «إِنَّهُ لاَ يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ، وَلاَ يُنْكَأُ بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ».(28) ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن الخذف أو كره الخذف وأنت تخذف لا أكلمك كذا وكذا.
ولما حدث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّه». فَقَالَ بشيرُ بْنُ كَعْبٍ إِنَّا لَنَجِدُ فِى بَعْضِ الْكُتُبِ أَوِ الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَمِنْهُ ضَعْفٌ. قَالَ: فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ، وَقَالَ: أَلاَ أُرَانِى أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُعَارِضُ فِيهِ.(29)
فالحاصل أنهم كانوا لا يسمحون لمعارضة السنة بالآراء بل يوجبون القبول، قال: عبد الله بن عمر، لما قال بالمتعة في الحج، واعتُرِض عليه بأن أبا بكر وعمر منعاها قال: “يُوشِكُ أن تقع عليكم حجارة من السماء”. ولَمَّا قيل لعبد الله بن عمر: تأمر بالمتعة وأبوك نهى عنها؟! قال: أرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع أم عمر؟!
ولَمَّا طاف معاذ بالبيت وجعل يستلم الأركان كلها، قال ابن عمر: لا، إنما هو اليماني، قالوا: ليس بالبيت شيءٌ مهجور، قال: إن الله يقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [سورة الأحزاب: الآية 21] وما رأيت النبي إلا استلم الركنين، قال معاذ: صدقت، وترك الاستلام.
هكذا كانوا يعلنون بالسنة ويظهرونها إذا خفيت على الناس.
ولَمَّا قَدَّم مروان بن الحكم الخطبة على الصلاة، قام وأنكر منكر، قال أبو سعيد: أما هذا فقد أدى ما عليه، سمعت رسول الله يقول: «مَن رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإن لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِه، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ».(30)
كل هذا حمايةً للسنة ومنعًا للآراء أن نستند إليها، ومنعًا للآثمين أن يقولوا أو يتفوهوا.
إن رَدَّ السنة لأجل هوى النفوس من الضلال، قال الله جل وعلا: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة النساء: الآية 65]
اختصم يهودي ومنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم الرسول لليهودي عليه،، فلم يرضَ المنافق بحكم رسول الله، فجاءا إلى عمر فَقَصَّا القصة عليه، فأخذ سيفه وقتل ذلك المنافق، وأنزل الله:﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ﴾. [سورة النساء: الآية 60]
إن تعظيم السنة بتعظيمها في قلوب الناس ودعوتهم إليها وترغيبهم فيها وتبيينها لهم بالأقوال والأفعال أمر عظيم.
لقد صنف المسلمون كتب السنة لِتُبَيِّنَ الآداب المستحبة والواجبة والأخلاق، والطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم والحج، والمعاملات، وكيفية الأكل والشرب، إلى غير ذلك، ما تركوا شيئًا إلا أوضحوه، وذلك لأن سنة رسول الله هدى ونور لمن اتبعها، فمن حق النبي علينا أن نقبل سنته، وأن نرضى بها، وأن نُحَكِّمَها، وأن نتحاكم إليها، وأن ندافع عنها ونزود عنها، ولا ندع لمنافق وجاهل أن يقول بهواه، بل نرد باطله وندحض باطله بالحق قال تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [سورة الإسراء: الآية 81].
إن المسلم يطبق السنة في صلاته، وفي أموره كلها قدر ما يستطيع، فمن تحرى السنة وعَمِلَ بها وُفِّق وأعين وهُدِيَ إلى سواء السبيل.
قال الإمام أحمد رحمه الله في قوله جل وعلا: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [سورة النور: الآية 63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك. فلعل أحدهم إذا رَدَّ قوله صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
فرَدُّ السنة عنادًا وتَجاهُلاً دَلِيلٌ على أن في القلب نفاقًا وأن القلب لا يخلو من دَخَن النِّفاق، ولا يمكن ذلك أن يحدث لمؤمن حَقًّا ؛ لأن المؤمن من يؤمن بالله ورسوله، ويصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، كان عبد الله بن مسعود يقول: حَدَّثَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. هكذا كانوا يعبرون ويعظمون هذه السنة، ويهتمون بها.
دخل عبد الله بن مسعود على قوم مجتمعين حِلَقًا يقولون: كَبِّروا عَشْرًا، سَبِّحوا عَشْرًا، احْمَدُوا عَشْرًا، فقال: مَا هَذَا الَّذِى أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ. قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لاَ يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَىْءٌ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ! هَؤُلاَءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِى نَفْسِى فِي يَدِهِ، إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوْ مُفْتَتِحِي بَابِ ضَلاَلَةٍ. قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ. قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْماً يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِى لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ. ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ.(31)
انظر إلى البدعة والإعراض عن السنة كيف آلت بأولئك إلى أن ضلوا عن سواء السبيل، وما أهلك الخوارج وما أسقط كرامتهم إلا اعتراض بعضهم على السنة وعدم قبولها، والطعن في حمتلها، نعوذ بالله من حال السوء، فالمسلم يقبل ويصدق ويوقن، حتى ولو لم يعمل، لا يعترض، إن ترك العمل عاصٍ، لكن إن اعترض وأدلى برأيه مقابل السنة، فهذا هو الضلال البعيد، ولهذا تبرأ أئمة الإسلام من مخالف الشرع.
قال أبو حجر الإمام: كل قول لي رأيتموه مُخَالِفًا للكتاب والسنة، فاضربوا به عرض الحائط.
وقال الإمام مالك: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم.

وقال الشافعي: أجمع المسلمون على أن من استبان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل له أن يدعها لقول أي قائل كائنًا مَن كان.
فالحقيقة أن هذا الموضوع القيم قد استوفى مسائل يصعب علينا أن نعيدها ثانية ؛ لأنها أمورٌ واضحة، فقد تناولت الدفاع عن السنة وعن أخبار الآحاد وبيان مكان السنة الفعلية والقولية وما تخلل ذلك من بيانٍ لموقف علماء المسلمين وحفظهم للسنة، فهو موضوع قيم في ذاته، وفي مقصوده، مُؤَدٍّ للغرض المقصود، وعن علم وبصيرة، وكلام طيب موزون رزين، يصحبه الدليل، ويحيط به الإخلاص، أسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على محمد.