موسى بن نصير في الأندلس
مقدمة:
كلما كانت الدولة
الإسلامية معنيةً بأمر الدين وحراسته ونشره في أرجاء الأرض، كانت جهاديةً من الطراز
الأول، وكلما كانت راية الجهاد مرفوعة، ويد الدولة مبسوطة تفتح كيف تشاء بإذن الله
عز وجل، كانت الأجواء مناسبةً ومواتيةً لظهور الكفاءات والقيادات والأبطال الأفذاذ
الذين لم يكن لظهورهم وبزوغ كفاءاتهم سبيل إلا بالجهاد في سبيل الله.
ولعل ذلك يفسر لنا سر ازدحام الدولة الأموية بالكثير
من الأبطال والكفاءات، وهذه قصة أحد هؤلاء الأبطال، الذي يستحق لقب: "كبير مجاهدي
الدولة الأموية"، وصاحب النصيب الأكبر من الغنائم التي أثرت الدولة الإسلامية
في نهاية القرن الأول الهجري، وإليه يرجع الفضل بعد الله عز وجل في فتح بلاد الأندلس.
اسمه ونسبه :
هو مُوسى بْن نُصير
بن عبد الرحمن بن زيد. يقول ابن بشكوال ([1]) :
إنّ جَدّه زيداً كان من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. وذكر بعضهم أنّ والده أسْلم
بعد حملة خالد بن الوليد على بلدة عين التمر سنة 12 هجرية. كانت الأسرة حليفة لقبيلة
لخم اليمنية، وقد ذُكر في ترجمة موسى أنه مولى لخم، ومما يُعزز هذا ما جاء في كتاب
«أخبار مجموعة» إذ يشير مؤلِّفُه إلى أن موسى بن نصير كان صهرا لحبيب اللّخمي، والد
أيوب بن حبيب الذي تولى الأندلس بعد مقتل عبد العزيز بن موسى([2]). إذن
فموسى بن نُصير لم يكن لخميا أصالة، وإنّما لخميٌّ بالمصاهرة والتي هي مما نتج عن رباط
الحلف أو الولاء الذي كان معمولا به بين القبائل في ذلك الزمان. أما أصله الصميم فقد
قيل إنه من أراشة، والذين قالوا بأن موسى بن نصير بكري فإنما كانوا يذهبون إلى أن أراشة
من عشيرة بكر بن وائل، ولكن الصّحيح هو أنّ أَرَاشَة كما -يقول ابن حزم- من قبيلة بليّ
القُضاعية([3])
.
مولده :
وُلد موسى بن نصير
سنة 19هـ/640م في قرية كفر مثري بالجليل، قال ياقوت الحموي: «كَفر مُثري: في نسب موسى
بن نُصَير صاحب فتوح الأندلس. قال سيبويه: سُبِيَ نُصير من جبل الجليل في أرض الشام
في زمن أبي بكر، وكان اسمه نَصْراً فصُغِّر، وأعتقه بعض بني أمية، ورجع إلى الشّام،
ووُلِدَ له موسى بقرية يقال لها: كفر مثري» ([4]) .
النشأة الجهادية :
نشأ موسى في بيت
جندية وجهاد، فأبوه من قادة الفتح الإسلامي على الجبهة الشامية، فلا عجب أن يكون الفتى
صنو أبيه، ويلمح فيه معاوية النجابة والذكاء والقدرة على القيادة، فيعهد معاوية له
ببعض المهام الحساسة، فيغزو موسى البحر لفتح قبرص وبناء بعض الحصون هناك مثل حصن
"المعاوض" و"يانس" وظل نائبًا على قبرص فترة.
أصبحت الصلة وثيقة جدًا بين "موسى بن نصير"
و"عبد العزيز بن مروان" والي مصر وأخوال الخليفة عبد الملك بن مروان، كان
بمثابة المستشار والوزير له، وظل معه فترة طويلة، فلما عُزل "حسان بن النعمان"
من منصبه، لم يجد عبد العزيز خيرًا ولا أكفأ من موسى بن نصير ليوليه المغرب العربي
وإفريقية وذلك سنة 85هـ، أي وهو في الستين من العمر([5]).
وظائفه
عمل نُصَيْر، والد
موسى، مع مُعاوية بن أبي سُفيان أيام ولايته على الشّام، وأصبح قائدا لفرقة من الحرس
([6]) .
أما ولده موسى، فقد ذكر ابن عذاري أنه عُيِّنَ «على خراج البصرة، قدّمه عليها عبد الملك
بن مروان، فاحتجن الأموال... وقصد إلى عبد العزيز بن مروان صاحب مصر لانقطاع كان منه
إليه، فتوجّه عبد العزيز مع موسى إلى الشام، فوفدا على عبد الملك فأغرمه عبد الملك
مائة ألف دينار، فغرم عنه عبد العزيز نصفها وعاد مع عبد العزيز إلى مصر فولاه منها
أفريقية»([7]).
روايته عن تميم
الداري :
والذين ذكروا أنّ
موسى بن نصير يروي عن الصحابي الجليل تميم الداري هم: ابن الفرضي ([8]) ،
والحُميدي ([9])
، وابن خلكان ([10]) ،
وياقوت الحموي ([11])،
والذهبي،([12])
والمقري([13]).
ولم نقف على خبر مسند إلى موسى بن نصير عن تميم الداري، على أن العلاقة بين الرجلين
مؤكّدة من خلال عدد من النصوص، منها هذا النص لابن سعد، قال: «أخبرنا الحسن بن مُوسى،
عن ابن لهيعة قال: أخبرني الحارث بن يزيد بن مسروق، قال: «كان تميم الداري في البحر
غازيا، فكان يُرسل إلى موسى بن نُصير أن يرسل إليه بالأسارى من الروم فيتصدّق عليهم»([14]) .
والظاهر –من هذا
الخبر- أن لقاء موسى بن نصير بتميم الداري كان ببلاد الشام.
انتقال موسى بن
نصير إلى مصر والقيروان
ذكر ابن عذاري
وابن قتيبة أن موسى بن نصير كان على خراج البصرة، قدّمه عليها عبد الملك بن مروان ([15]) .
ثم عُقد له على أفريقية مِنْ قِبَلِ والي مصر عبد العزيز بن مروان أخي الخليفة عبد
الملك بن مروان، يوم الخميس في صفر سنة تسع وسبعين (79هـ)، وذلك بعد أن عزل حسان بن
النعمان الغساني. وقد جاءت موافقة الخليفة على قرار والي مصر بهذه العبارة: «قد بلغ
أمير المؤمنين ما كان من رأيك في عزل حسان وتولية مُوسى، وقد أمضى لك أمير المؤمنين
ما كان من رأيك وولاية من وَلَّيْتَ»([16]) .
وقد خرج موسى بن
نصير من مدينة البصرة وتوجّه إلى مصر، ويذكر ابن قتيبة أنّه لما قَدِمَ ذات الجماجم
([17]) ،
توافت الجيوش بها، جمع موسى الناس فقام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
«أيها الناس، إنّ
أمير المؤمنين -أصلحه الله- رأى رأيا في حسان بن النعمان، فولاه ثغركم، ووجهه أميرا
عليكم، وإنما الرجل في الناس بما أظهر، والرأي فيما أقبل، وليس فيما أدبر، فلمّا قدم
حسان بن النعمان على عبد العزيز أكرمه الله كفر النعمة، وضيع الشكر، ونازع الأمر أهله،
فغير الله ما به، وإنما الأمير أصلحه الله صنو أمير المؤمنين وشريكه، ومن لا يتهم في
عزمه ورأيه، وقد عزل حسان عنكم، وولاني مكانه عليكم، ولم يأل أن أجهد نفسه في الاختبار
لكم، وإنما أنا رجل كأحدكم، فمن رأى مني حسنة، فليحمد الله، وليحض على مثلها، ومن رأى
مني سيئة فلينكرها، فإني أخطئ كما تخطئون، وأصيب كما تصيبون، وقد أمر الأمير أكرمه
الله لكم بعطاياكم وتضعيفها أثلاثا، فخذوها هنيئا مريئا، ومن كانت له حاجة فليرفعها
إلينا، وله عندنا قضاؤها على ما عزّ وهان، مع المواساة إن شاء الله، ولا حول ولا قوة
إلا بالله»([18])
.
كان حَبْلُ الأمن
مضطربا بالبلاد المغربية في العُقُود الأُولى مِنْ زمن الفُتوحات الإسلامية، فلمّا
أتاها مُوسى بن نُصير وجدها لاتزال على ذلك الوضع، موزّعةً بين التّبعية للبزنطيين
وبين الولاء للزّعامات القَبَلِيّة ولبعض قادة المسلمين، بينما بقيت بعض المناطق غير
داخلة تحت أيّ طاعة. وأوّل عمل نفّذه مُوسى بن نُصير هو قيامه بحملة على منطقة زغوان
ففتحها، وأرسل ابْنيه عبد الله ومروان إلى بعض نواحي أفريقية فتمّ لهم فتحها» ([19]) .
وبعد ذلك تفرّغ مُوسى بن نُصير لفتح ما بقي من البلاد المغربية، فتقدّم إلى المغرب
الأوسط وغزا قبائل هوارة وزناتة، واستألف بعض القبائل وعقد معهم صُلحا مع الإقرار بما
في أيديهم، وترك تدبير أمورهم لأهلهم، منها قبائل كتامة وصنهاجة ([20]) .
موسى بن نصير في
المغرب الأقصى :
أرسل مُوسى بن نُصير حملتين إلى المغرب الأقصى بقيادة
ابنه مروان الذي توجّه إلى السوس، وخلال ذلك عقد صلحا مع قبائل مصمودة، كتامة، زناتة،
هوارة([21])
. ثم تقدم مُوسى بن نصير باتجاه مضيق جبل طارق وربط الاتصال بيليان، وبعد قليل
تمكن موسى بن نصير من انتزاع طنجة من يد يليان، وإسناد ولايتها لطارق بن زياد. قال
ابن عذاري: «ولما حمل أبو مُدرك زُرعة بن أبي زُرعة رهائن المصامدة جمعهم موسى مع رهائن
البربر الذين أخذهم إلى أفريقية والمغرب وكانوا على طنجة وجعل عليهم مولاه طارقاً ودخل
بهم جزيرة الأندلس. وترك موسى بن نُصير سبعة عشر رجلاً من العرب يعلمونهم القرآن وشرائع
الإسلام وقد كان عقبة بن نافع ترك فيهم بعض من أصحابه يعلمونهم القرآن والإسلام: منهم
شاكر صاحب الرباط وغيره ولم يدخل المغرب الأقصى أحد من وُلاة خلفاء بني أمية بالمشرق
إلا عقبة بن نافع الفهري ولم يعرف المصامدة غيره، وقيل: إن أكثرهم أسلموا طوعاً على
يديه، ووصل مُوسى بن نصير بعده»([22]) .
وحول هذه الوقائع
ذاتها يقول ابن عذاري: «ثم خرج موسى - رحمه الله - غازياً من أفريقية إلى طنجة، فوجد
البربر قد هربوا إلى الغرب خوفاً من العرب، فتبعهم حتى بلغ السوس الأدنى وهو بلاد درعة،
فلما رأى البربر ما نزل بهم استأمنوا وأطاعوا فولى عليهم والياً، واستعمل مولاه طارقاً
على طنجة وما والاها في سبعة عشر ألف من العرب واثني عشر ألف من البربر، وأمر العرب
أن يعلموا البربر القرآن وأن يفقهوهم في الدين، ثم مضى موسى قافلاً إلى أفريقية» ([23]) .
في ذات الزّمن
تُسجل كتب التاريخ أنّ مُوسى بن نُصير قام بحملة بحرية على جزيرة صقلية ([24]) .
كما تسجل أيضا أن عبد الله بن مُوسى فتح جزيرة ميورقة ومنورقة عام 89هـ/707م([25]) .
وقبل أن يعود موسى بن نصير إلى القيروان كان قد ضرب نُقودا بطنجة ([26]) .
فتح الأندلس
.. تفكير قديم :
لم يكن موسى بن
نصير -رحمه الله- هو أول مَنْ فَكَّر في فتح الأندلس، وإنما كانت فكرة فتح الأندلس
فكرة قديمة؛ فلقد استطاعت الجيوش الإسلامية أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه الوصول
إلى القسطنطينية ومحاصرتها، إلاَّ أنها لم تستطع أن تفتحها، فقال عثمان بن عفان رضي
الله عنه: "إن القسطنطينية إنما تُفتح من قِبَل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس
فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر آخر الزمان([27]) ".
أي: إنه على المسلمين
لكي يتمكَّنُوا من فتح القسطنطينية أن يفتحوا الأندلس أولاً، ثم يتَّجهون منها بعد
ذلك إلى القسطنطينية -في شرق أوربا- ويقصد عثمان t بالبحر ما كان يُعرف بالبحر الأسود في ذلك الوقت، لكن المسلمين لم يستطيعوا
أن يصلوا إلى الأندلس إلاَّ أيام بني أمية، وفي ولاية موسى بن نصير على الشمال الإفريقي.
بعد أنْ عيّن مُوسى
بن نُصير طارق بن زياد على طنجة وما والاها من البلاد، قفل راجعا إلى أفريقية ([28]) .
وتُسَجِّلُ كتب التاريخ أن طارق بن زياد توجّه إلى تلمسان، وبدأ من هناك في رصد السفن
البيزنطية([29])
. بعد ذلك يدخل طارق بن زياد في مُفاوضات مع يُلْيَان حاكم سبتة، ثم ينتقل إلى
القيروان ليُعْلم موسى بن نصير بِسَيْرِ الأُمُور([30]).
قال ابن عذاري: «وفي سنة 92 من الهجرة جاز طارق إلى الأندلس وافتتحها بمن كان معه من
العرب والبرابر ورهائنهم الذين ترك موسى عنده والذين أخذهم حسّان من المغرب الأوسط
قبله. وكانت ولاية طارق على طنجة والمغرب الأقصى في سنة 85هـ، وفي هذا التاريخ تَمَّ
إسلام أهل المغرب الأقصى وحوّلوا المساجد التي كان بناها المشركون إلى القبلة وجعلوا
المنابر في مساجد الجماعات»([31]) .
وقبل هذا الجواز
الشهير، كان أبو زرعة طريف بن مالك المعافري قد جاز –بأمر طارق بن زياد- البحر إلى
الأندلس في رمضان 91هـ/710م، ونزل بالموضع الذي صار -فيما بعد- يعرف منسوبا إليه: جزيرة
طريف ([32])
. لقد كانت هذه محاولة استطلاع قبل حركة الفتح الكبرى لعام 92هـ.
في عام 90 هـ،
راسل الكونت يوليان موسى بن نصير ([33]) وقيل
قائده في طنجة طارق بن زياد يدعو المسلمين لغزو الأندلس، لعداوة بينه وبين رودريك ملك
القوط. فكتب موسى للوليد يخبره بدعوة يوليان،
فأمره باختبارها بالسرايا، ولا يغرر بالمسلمين بخوض بحر شديد الأهوال. إلا أن موسى
طمأنه بأنه ليس بحرًا وإنما خليج، فرد الوليد بأنه وإن كان خليجًا اختبره بالسرايا.
فأرسل موسى في رمضان 91 هـ سرية من 400 مقاتل ومائة فارس بقيادة طريف بن مالك، فنزلوا
جزيرة سميت بعد ذلك بجزيرة طريف، أصابت مغانم كثيرة([34]) .
عندئذ، جهز موسى
جيشًا من 7,000 مقاتل معظمه من البربر وولى قيادته طارق بن زياد، وأمره بالعبور للأندلس
عام 92 هـ. فجاز طارق بجنوده في 5 رجب 92 هـ إلى موضع الجبل الذي ينسب إليه اليوم.
وحين بلغ رودريك خبر جيش طارق جمع جيشًا عظيمًا بلغ نحو مائة ألف مقاتل، وزحف به من
عاصمته طليطلة. وحين بلغ طارق خبر حجم حشود رودريك، استمد موسى فأمده بخمسة آلاف مقاتل،
ليصبح جيشه 12,000 مقاتل. والتقى الجيشان في 28 رمضان 92 هـ/17 يوليو 711 م قرب شذونة
جنوب بحيرة خندة عند وادي لكة، فهزم المسلمون جيش رودريك، وفر رودريك ولم يظهر مرة
أخرى. ثم قسم طارق جيشه فبعث مغيث الرومي مولى الوليد بن عبد الملك في سبعمائة فارس
إلى قرطبة، وأرسل مجموعات أخرى إلى إلبيرة ورية، وتوجه هو بباقي الجيش إلى طليطلة.
نجحت مجموعات قرطبة وإلبيرة ورية في فتح تلك المناطق، كما دارت معركة صغيرة بين المسلمين
والقوط في تدمير، نتج عنها معاهدة بين المسلمين وقائد القوط تدمير.
أرسل طارق إلى
موسى يُعلمه بالفتح. فأرسل موسى إلى الوليد بن عبد الملك يبشره، وإلى طارق يأمره بأن
لا يستكمل الفتح ويبقى بقرطبة حتى يلحق به. ثم استخلف موسى ابنه عبد الله على القيروان،
وعبر إلى الأندلس في رجب 93 هـ. بعد نزوله الأندلس، سلك موسى طريقًا غير الذي سلكه
طارق، وافتتح مدن شذونة وقرمونة وإشبيلية وباجة وماردة. ثم ثار أهل إشبيلية على حاميتها
من المسلمين وقتلوهم، فأرسل لهم موسى ولده عبد العزيز فأعاد فتحها، ومنها افتتح عبد
العزيز لبلة. ثم سار موسى يريد دخول طليطلة، فلقيه طارق في طلبيرة، وأنّبه على مخالفته
له في بعض الأمور ثم سارا معًا إلى طليطلة، ثم أرسل من افتتح سرقسطة ومدنها.
وفي عام 95 هـ،
جاءت رسل الخليفة الوليد تدعو موسى بالقدوم عليه، فخرج موسى ومعه طارق بن زياد ومغيث
الرومي يريدون دمشق، واستخلف ولده عبد العزيز مكانه الذي اتخذ من إشبيلية قاعدة له.
ووفد موسى ومعه طارق على الخليفة سليمان بن عبد الملك بعد وفاة الوليد عام 96 هـ. وتقول
الروايات العربية، أن سليمان راسل موسى يطالبه بأن يتأنى في القدوم، رغبة منه في أن
يدخل عليه في صدر خلافته، وقد كان الوليد في مرض موته، إلا أن موسى رفض، وجدّ في السير،
وهنا تختلف الروايات فبعضها يقول بأنه أن أدرك الوليد قبل موته،والبعض يقول أنه وصل
دمشق بعد أن أصبح سليمان خليفة. وعند قدوم موسى على سليمان، أمر سليمان بعزله واتهمه
باختلاس أموال وسجنه وأغرمه، ولم ينقذه سوى شفاعة يزيد بن المهلب الذي كانت له حظوة
عند سليمان.
موسى بن نصير وعقبات
فتح الأندلس :
استتبَّ الأمر
لموسى بن نصير في شمال إفريقيا، وانتشر الإسلام وبدأ الناس يُقبلون على تعلُّم دينهم،
فلمَّا رأى موسى بن نصير ثمار عمله، بدأ يُفَكِّر في نشر الإسلام في البلاد التي لم
يصلها بعدُ، فبدأ يُفَكِّر في فتح بلاد الأندلس، والتي لا يفصلها عن شمال إفريقيا سوى
المضيق الذي صار يُعْرف بعد الفتح الإسلامي بـ(مضيق جبل طارق)، ولكن كانت هناك عدَّة
عقباتٍ؛ كان أهمها ما يلي:
العقبة الأولى:
قلَّة السفن :
وجد موسى بن نصير
أن المسافة التي سيقطعها في البحر بين المغرب والأندلس لا تقلُّ عن 13 كم، ولم يكن
لديه سفنٌ كافيةٌ ليعبر بجيشه هذه العقبة المائية؛ فمعظم معارك المسلمين -باستثناء
بعض المواقع مثل: ذات الصواري وفتح قبرص- كانت برِّيَّة؛ ومن ثَمَّ لم تكن هناك حاجة
كبيرة إلى سفن ضخمة، ولكن الآن الأمر مختلف، وهم في حاجة للسفن الضخمة لتنقل الجنود
وَتَعْبر بهم المضيق ليصلوا إلى الأندلس.
العقبة الثانية:
وجود جزر البليار النصرانية في ظهره
كان موسى بن نصير
قد تعلَّم من أخطاء سابقيه؛ فلم يكن يخطو خطوةً حتى يُؤَمِّن ظهره أولاً، وفي شرق الأندلس
كانت تقع جزرٌ تُسَمَّى جزر البليار -وهي عدَّة جزر تقع أمام الساحل الشرقي لإسبانيا،
وأهمها ثلاثة جزر هي: مَيُورْقَة ومَنُورقَة ويَابِسَة، وتُسَمَّى في المصادر العربية
بالجزر الشرقية- وهي قريبة جدًّا من الأندلس؛ ومن هنا فإن ظهره لن يكون آمنًا إن دخل
الأندلس، وكان عليه أولاً أن يحمي ظهره.
العقبة الثالثة:
وجود ميناء سبتة المطل على مضيق جبل طارق في أيدي نصارى على علاقة بملوك الأندلس
لم يكن المسلمون
حينئذٍ قد فتحوا مدينة سَبْتَة، وهي مدينة ذات موقع استراتيجي مهم، ولها ميناء يطلُّ
على مضيق جبل طارق، فكانت آنئذٍ تحت حكم رجل نصراني يُدْعَى (يُليان)، الذي كانت تربطه
علاقات طيبة بملك الأندلس السابق غِيطشَة، وغِيطشَة هذا كان قد تعرَّض لانقلاب قادَه
قائد له يُدعى لُذريق، وتولى لُذريق حُكم الأندلس نتيجة هذا الانقلاب، فخشي موسى بن
نصير إن هو هاجم الأندلس أن يتحالف يُليان مع لُذريق ضدَّه نظير مقابل مادي أو تحت
أي بند آخر، فيُحاصروه ويقضوا عليه هو وجنوده.
العقبة الرابعة:
قلة عدد المسلمين :
كانت العقبة الرابعة
التي واجهت موسى بن نصير هي أن قوات المسلمين الفاتحين التي جاءت من جزيرة العرب ومن
الشام واليمن محدودة جدًّا، وكانت في الوقت نفسه منتشرة في بلاد الشمال الإفريقي؛ ومن
ثَمَّ قد لا يستطيع أن يُتِمَّ فتح الأندلس بهذا العدد القليل من المسلمين، هذا مع
خوفه أن تنقلب عليه بلاد الشمال الإفريقي إذا هو خرج منها بقواته.
العقبة الخامسة:
كثرة عدد النصارى
في مقابل قوَّة
المسلمين المحدودة كانت قوات النصارى تقف بعُدَّتها وضخامتها عقبةً في طريق موسى بن
نصير لفتح الأندلس، وكان للنصارى في الأندلس أعدادٌ ضخمةٌ هذا بجانب قوَّة عُدَّتهم
وكثرة قلاعهم وحصونهم، وإضافة إلى ذلك فهم تحت قيادة لُذريق القائد القوي.
العقبة السادسة:
طبيعة جغرافية الأندلس، وكونها أرضًا مجهولةً بالنسبة للمسلمين
ميناء سبتةكان
البحر حاجزًا بين المسلمين وبلاد الأندلس، فلم يكونوا على علمٍ بطبيعتها وجغرافيتها؛
وهذا ما يجعل الإقدام على غزو أو فتح هذه البلاد أمرًا صعبًا، فضلاً عن هذا فقد كانت
بلاد الأندلس تتميَّز بكثرة الجبال والأنهار، تلك التي ستقف عقبةً كئودًا أمام حركة
أيِّ جيش قادم، خاصةً إذا كانت الخيول والبغال والحمير هي أهمُّ وسائل ذلك الجيش في
نقل العُدَّة والعَتَاد.
موسى بن نصير ومواجهة
العقبات :
لم يستسلم موسى
بن نصير رغم هذه العقبات التي كانت موجودة في طريق فتح الأندلس، بل زادته هذه العقبات
إصرارًا على فتحها، ومن هنا بدأ -وفي أناةٍ شديدة- يُرَتِّب أموره ويُحَدِّد أولوياته،
فعمل على مواجهة هذه العقبات على النحو التالي:
أولاً: بناء المواني
وإنشاء السفن :
بدأ موسى بن نصير
في عام (87 أو 88هـ=706 أو 707م) ببناء المواني التي تُشَيَّد فيها السفن، وإن كان
هذا الأمر ربما يطول أمده، إلاَّ أنه بدأه بهمة عالية وإرادة صلبة؛ فبنى أكثر من ميناءفي
الشمال الإفريقي ([35]) .
ثانيًا: تعليم
الأمازيغ (البربر) الإسلام :
وفي أثناء ذلك
بدأ موسى بن نصير -أيضًا- يبذل جهودًا أكبر لتعليم الأمازيغ (البربر) الإسلامَ في مجالس
خاصة لهم، أشبه بما نُسَمِّيه الآن الدورات المكثَّفة، فلمَّا اطمأنَّ إلى فهمهم للإسلام
بدأ يعتمد عليهم ويستعملهم في جيشه، وهذا الصنيع من الصعب -إن لم يكن من المستحيل-
أن نجده عند غير المسلمين؛ فلم تستطع دولةٌ محارِبَةٌ أو فاتحة غير الدول الإسلامية
أن تُغَيِّر من طبائع الناس وحُبِّهم وولائهم الذي كانوا عليه؛ حتى يُصبحوا هم المدافعين
عن هذه الدولة والناشرين لدينها؛ خاصَّة إذا كانوا حديثي عهدٍ بهذا الفتح أو بهذا الدين
الجديد، فهذا أمر عجيب حقًّا، ولا يتكرَّر إلاَّ مع المسلمين وحدهم؛ فقد ظلَّت فرنسا
-على سبيل المثال- في الجزائر مائة وثلاثين عامًا، ثم خرجت جيوشها، بينما ظلَّ الجزائريون
كما كانوا على الإسلام لم يتغيَّرُوا، بل زاد حماسهم له وزادت صحوتهم الإسلامية.
علَّم موسى بن
نصير الأمازيغ (البربر) الإسلام عقيدةً وعملاً، وغرس فيهم حُبَّ الجهاد وبَذْل النفس
والنفيس لله U؛ فكان أن صار جُلُّ الجيش الإسلامي وعمادُه من
الأمازيغ (البربر) الذين كانوا منذ ما لا يزيد على خمس سنوات من المحاربين له.
ثالثًا: تولية
طارق بن زياد على الجيش :
القائد هو قِبلة
الجيش وعموده، بهذا الفَهْم ولَّى موسى بن نصير قيادةَ جيشه - المتَّجه إلى فتح بلاد
الأندلس - القائدَ الأمازيغي (البربري) المحنَّك طارق بن زياد (50-102هـ=670-720م)
ذلك القائد الذي جمع بين التقوى والورع، والكفاءة الحربية، وحُبِّ الجهاد، والرغبة
في الاستشهاد في سبيل الله، ورغم أنه كان من الأمازيغ (البربر) وليس من العرب إلاَّ
أن موسى بن نصير قدَّمه على غيره من العرب، وكان ذلك لعدة أسباب؛ منها:
1- الكفاءة: لم
يمنع كون طارق بن زياد غير عربي أن يُوَلِّيَه موسى بن نصير قيادةَ الجيش؛ فهو يعلم
أنه ليس لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي فضلٌ إلاَّ بالتقوى؛ فقد وجد فيه الفضل
على غيره، والكفاءة في القيام بهذه المهمة على أكمل وجه، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما
يدلُّ على أن دعوة الإسلام ليست دعوة قَبَلِية أو عنصرية تدعو إلى التعصب، وتُفَضِّل
عنصرًا أو طائفةً على طائفة؛ إنما هي دعوة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ} ([36]) .
2- قدرته على فَهم
وقيادة قومه: إضافة إلى الكفاءة التي تميَّز بها طارق بن زياد كان لأصله الأمازيغي
(البربري) الفضلُ في القضاء على أيٍّ من العوامل النفسية التي قد تختلج في نفوس الأمازيغ
(البربر) الذين دخلوا الإسلام حديثًا؛ ومِن ثَمَّ استطاع قيادتهم وتطويعهم للهدف الذي
يصبو إليه، ثُمَّ لكونه أمازيغيًّا (بربريًّا) فهو قادر على فهم لغة قومه؛ إذ ليس كل
الأمازيغ (البربر) يُتقنون الحديث بالعربية، وكان طارق بن زياد يُجيد اللغتين العربية
والأمازيغية (البربرية) ([37]) ؛
ولهذه الأسباب وغيرها رأى موسى بن نصير أنه يصلح لقيادة الجيش فولاَّه إيَّاها.
رابعًا: فتح جزر
البليار وضمها إلى أملاك المسلمين :
من أهمِّ الوسائل
التي قام بها موسى بن نصير تمهيدًا لفتح الأندلس، وتأمينًا لظهره -كما عهدناه- قام
بفتح جزر البليار -التي ذكرناها سابقًا- وضمَّها إلى أملاك المسلمين، وبهذا يكون قد
أمَّن ظهره من جهة الشرق، وهذا العمل يدلُّ على حُنكته وبراعته في التخطيط والقيادة،
ومع هذا كلِّه فقد أُغفِل دورُه في التاريخ الإسلامي كثيرًا.
عودة موسى بن نُصير
إلى الأندلس :
ذكر المقري أنَّ
طارق بن زياد «أجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة -بإذن أميره موسى بن نصير- في
نحو ثلثمائة من العرب، واحتشد معهم من البربر زهاء عشرة آلاف، فصيّرهم عسكرين، أحدهما
على نفسه، ونزل به جبل الفتح، فسمّي جبل طارق به، والآخر على طريف بن مالك النخعي،
ونزل بمكانٍ مدينة طريف، فسمّي به، وأَدَارُوا الأسوار على أنفسهم للتحصّن، وبلغ الخبر
إلى لذريق فنهض إليهم يجرّ أُمم الأعاجم وأهل ملّة النصرانية في زهاء أربعين ألْفاً،
وزحفوا إليه، فالْتقوا بفحص شريش،... وكتب طارق إلى موسى بن نصير بالفتح وبالغنائم،
فحرّكته الغيرة، وكتب إلى طارق يتوعّده إن توغّل بغير إذنه، ويأمره أن لا يتجاوز مكانه
حتى يلحق به، واستخلف على القيروان ولده عبد الله، وخرج ومعه حبيب بن أبي عبيدة الفهري،
ونهض من القيروان سنة ثلاثٍ وتسعين من الهجرة في عسكرٍ ضخمٍ من وجوه العرب الموالي
وعرفاء البربر، ووافى خليج الزّقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء، فأجاز إلى الأندلس([38]) .
ونقل المقري عن
ابن حيّان، رواية رجوع موسى بن نصير إلى الأندلس، وذكر الطريق التي سَلَكَهَا حتى لقائه
بطارق ابن زياد، ومُلخّص هذه الرواية أنه لما بلغ موسى بن نصير ما صنعه طارق بن زياد
وما أتيح له من الفُتوح، تهيّأ للمسير إلى الأندلس، وكان شُفُوف طارق قد غمّه، فكان
دخول موسى إلى الأندلس في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين، وحلّ بجبل طارق، آتيا إليه من
الموضع الذي صار -فيما بعد- يُنسب إليه المعروف حتى الآن وهو جبل موسى، ثم احتل الجزيرة
الخضراء ومعه ولده عبد العزيز وعدد من العساكر، وسار بهم على ساحل شذونة حتى وصل إلى
مدينة قرمونة، وليس بالأندلس أحصن منها، وتوجّه إلى إشبيلية فأراد فتحها فامتنعت عليه
أشهراً، ثم فتحها الله عليه سنة 94هـ، ثم خرجت من يده بسبب انتقاض عجم إشبيليّة على
المسلمين، فأوقعوا بالمسلمين وقتلوا منهم نحو ثمانين رجلاً، وكان موسى قد توجه إلى
ماردة وفتحها، فلما عَلِمَ بأمر إشبيلية وجّه ابنه عبد العزيز بن موسى في جيش إليهم
ففتح إشبيلية ولبلة، واستقامت الأُمُور فيما هنالك، وعَلَا الإسلام، وأَقَام عبد العزيز
بإشبيلية، وخرج الأمير موسى بن نُصير من ماردة وتقدّم نحو جبال جلّيقية فخرقها حتى
وافى طارق بن زياد صاحب بمدينة استرقة،... وساروا إلى طليطلة. ويروي المؤرخون أن موسى
بن نصير طالب طارق بن زياد بأداء ما عنده من مال الفيء وذخائر الملوك، واستعجله بالمائدة،
فأتاه طارق بها وقد خلع من أرجلها رجلاً وخبأه عنده، فسأله موسى عنه، فقال: لا علم
لي به، وهكذا أصبتها. وهذه المائدة المنوّه بها هنا هي المنسوبة إلى النبيّ سُليمان
عليه الصلاة والسلام... ويحكى أنّ طارق استظهر بالرِّجْل الذي خبأه من المائدة عنده،
إذ تنازعا (هو وموسىى) عند الخليفة بدمشق ([39]) .
يذكر ابن عذاري
أنه في سنة 96هـ توفي الوليد بن عبد الملك في جمادى الأخيرة، وخَلَفَهُ سُليمان بن
عبد الملك الذي طالب موسى بن نُصير بمائة ألف دينار ثم بثلاثمائة ألف دينار، وقد كانت
هذه المطالبة لها علاقة بما حمله معه موسى من السبي من المغرب. ويبدو أن المشاكل المالية
قد وُجدت لها حلولا فيما بعد، كما أن العلاقة بين الخليفة الأموي وبين مُوسى بن نصير
عادت إلى الصفاء بعد الجفاء حتى أنهما حجّا معا، قال ابن عذاري في ترجمة موسى بن نصير:
«وكان مولد موسى بن نُصير سنة 19 ووفاته سنة 98 فكان عمره تسعاً وسبعين سنة وفي سنة
88 ولي أفريقية فأقام عليها أميراً وعلى الأندلس والمغرب كله نحو ثمان عشر سنة إلى
أن مات ومما ذكر في وفاته أنه حجّ مع سليمان فلما وصلا المدينة قال مُوسى بن نُصير
لأصحابه: «ليموتن بعد غد رجل قد ملئ ذكره المشرق والمغرب» فمات موسى في ذلك اليوم»([40]) .
خاتمة وملخص عن القائد : موسى بن نصير :
كان موسى بن نصير قائدًا محَنَّكًا،
له نظرة واعية وبُعْدُ نظرٍ ثاقب، و كانت رؤية موسى
بن نصير تستند إلى الحفاظ على جيش المسلمين
من الهلكة وهو بعيد عن أرضه لم تستقر خطوط إمداده؛ وقد تخبطت الروايات
في الحديث عن نهاية موسى
وما لقيه من الخليفة سليمان من الأذى
والغمط والنكران وفي هذه الروايات غموض وتشويش وتناقض ومبالغات كبيرة ([41]) ، والصحيح أن سليمان كان
عاتباً على موسى، لأمر لا نستطيع
تحديده على وجه الدقة ثم رضي عنه سليمان وقرّبه منه وأصبح من خاصته([42]) ، وكانت بينه وبين سليمان
محاورات وتساؤلات فقد قال
له سليمان يوماً: ما كنت تفزع إليه عند الحرب؟ قال الدعاء والصَّبْر،
قال: فأي الخيل رأيت أصبر؟ قال:الشُقُر، قال:
فأي الأمم أشدُّ قتالاً؟ قال: هم أكثر من
أن أصف؟ قال: قال: فأخبرني
عن الرُّوم، قال: أُسْدٌ في حصونهم عِقبان على خيولهم، نساء في مَراكبهم، إن رأَوا
فرصة انتهزوها، وإن رأَوْا غلبة، فأُوعال
تذهب في الجبال، لا يرون الهزيمة عاراً. قال: فالبربر؟ قال: هم
أشبه العجم بالعرب لقاء ونجدة وصبراً
وفروسية، غير أنهم أغدر الناس قال: فأهل الأندلس؟
قال: ملوك مترفون وفرسان
لا يجبنون، قال: فالفرنج؟ قال: هناك العدد والجلد والشدة والبأس، قال: فكيف كانت الحرب بينكم وبينهم؟
قال: أمَّا وهذا فوالله ما هُزمت لي راية قط ولا بُدِّد لي جمع، ولا نُكب المسلمون معي
منذ اقتحمت الأربعين إلى أن بلغت الثمانين، ولقد
بعثت إلى الوليد بتور زبرجد كان يجعل
فيه اللبن حتى ترى فيه الشعرة
البيضاء ثم أخذ يُعدِّد ما أصاب من الجوهر والزبرجد حتى تحير
سليمان([43])
، وقد وصف الذهبي موسى بن
نصر بقوله: الأمير الكبير،
أبو عبد الرحمن اللخمي، متولي إقليم المغرب، وفاتح الأندلس، قيل: كان
مولى امرأة من لخم، وقيل: ولاؤه لبني أمية. وكان أعرج مهيباً ذا رأي وحزم ([44]) ،
وكان من اصحاب الهمم الكبيرة فقد قال مرّة: والله لو انقاد
الناس لي، لقدتهم حتى أُوقعهم
على رُومية ثم ليفتحنها
الله على يدي، وكان موسى بن نصير
بوسعه أن يستقل على الخلافة ويقيم ملكاً له ولأولاده
في المغرب والأندلس، ولكن إيمانه العميق بتعاليم الإسلام وتمسكه والتزامه بها
جعله لا يفكر بذلك حتى إن يزيد بن المهلب
ابن أبي صفرة سأله عن ذلك فقال موسى: والله لو أردت ذلك ما
نالوا من أطرافي طرفاً، ولكني آثرت الله ورسوله،
ولم نر الخروج عن الطاعة والجماعة، وقد توفي موسى بن نصير
رحمه الله تعالى وهو متجه
للحج برفقة الخليفة سليمان بن
عبد الملك في المدينة المنورة ـ على سكانها أفضل
الصلاة والسلام ـ أو في
وادي القرى ((العُلا ، حاليا) أواخر سنة 97هـ
وعمره ثمان وسبعون
سنة أو يزيد (في سنة
97هـ) ، وقال صاحب معالم الإيمان: توفي بالمدينة متوجهاً إلى الحج وكان قد سأل
الله عز وجل أن يرزقه الشهادة أو يموت بالمدينة فأجاب
الله دعاءه، وصلى عليه مسلمة بن عبد
الملك ([45])
.
ولقد كانت الدنيا
وما فيها صغيرة ولا قيمة لها عند موسى بن نصير ويرجع الفضل في ذلك إلى
الله ثم نصيحة العالم
الجليل أبو عبد الله علي بن رباح اللخمي لموسى بن نصير، فقد أورد صاحب كتاب رياض
النفوس أن موسى بن نصير لما وصل من الأندلس إلى
القيروان قعد يوماً في مجلسه، فجاءه العرب يسلمون عليه،
فلما احتفل المجلس قال: إنه قد صحبتني ثلاث نعم:
أما واحدة فإن
أمير المؤمنين كتب إلى يهنئني في كتابه وأمر بقراءة الكتاب، فهنيء بذلك وأما الثانية فإن
كتاب ابني قدم علي بأنه فتح له بالأندلس فتح عظيم،
وأمر بالكتاب فقريء
فهنيء بذلك، وكان علي
بن رباح ساكت فقال له موسى: مالك يا علي لا تتكلم؟ فقال: أصلح الله الأمير، قد قال
القوم فقال: وقل أنت أيضاًَ. فقال: أنا أقول ـ وأنا أنصح القائلين
لك ـ إنه ما من دار
امتلأت حبرة إلا امتلأت عبرة، وما انتهى شيء إلا رجع، فارجع قبل أن يرجع بك، فانكسر موسى بن نصير وخشع
وفرق جواري عدة..
وقال صاحب الرياض:
ونفعه الله عز وجل بموعظة أبي عبد الله بن رباح،فصغرت
عنده الدنيا وما فيها ونبذها وانخلع مما كان فيه من الإمارة فرضي الله عن التابعي الجليل،
والإداري الحازم، والبطل المغوار، والقوي الأمين، القائد
الفاتح، موسى بن نصير اللخمي الذي فتح المغرب الأقصى، واستعاد فتح المغرب الأوسط،
وأنه دعم الفتح الإسلامي في الشمال الإفريقي وأنه فتح الأندلس وقسماً
من جنوب فرنسا وأنه كان من أعظم قادة الفتح الإسلامي، لقد مات موسى بن نصير بعد أن
ملأ جهاده ـ بقيادة المد الإسلامي
المبارك ـ وديان المغرب الإسلامي ((الشمال الإفريقي
والأندلسي)) وجباله وسهوله
وهضابه ووجه دعاة الحق
لإسماع ساكنيه دعوة الإسلام الخالدة، فكانت سبباً في
إخراجهم من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى
النور، أما ترى معي موسى وهو يجوب الصحاري والوديان والسهول والجبال وقد سلخ من سني
عمره خمساً وسبعين سنة ممتطياً جواده يتحرك
في أعماقه إيمان بالله العلي القدير قد دفعه للجهاد والدعوة والعلم
والتربية وأحكام أمور الدولة رغم ما علا رأسه من الشيب
الوقور، منقاد لإصرار العقيدة السمحة، وهمة الإيمان
الفتي، التي كانت سبباً
في كل خير أصاب المسلمين, أما عن البطل الكبير طارق بن زياد،
فلا نكاد نعرف عما حدث له بعد وصوله دمشق غير أن رواية تذكر
رغبة سليمان في تولية طارق الأندلس،
وبعد ذلك قضى آخر أيامه مغموراً فهل عاد
إلى المغرب والأندلس؟ أم بقي في دمشق ولا يستبعد
أن يكون عاد إلى الأندلس أو المغرب, كان طارق من البربر
وعامّة جنوده كذلك، فيهم شجاعة وإقدام، فقد تربوا
في أحضان الإسلام وعلى تعاليم القرآن الكريم وأصبحوا أصحاب
رسالة خالدة صنعت منهم
الأبطال، وقدموا في سبيل دينهم وعقيدتهم الغالي
والنفيس، بل نجزم بأن الجيوش الإسلامية الضاربة
التي اصطدمت بالأسبان اعتمدت بعد الله على إخواننا من البربر
الذين اندفعوا خلف طارق في سبيل هذا الدين
ونشره، إن العقيدة الإسلامية
صهرت المنتسبين إليها عرباً وعجماً في رحاب الإسلام
العظيم.
قائمة المصادر والمراجع :
1.
القرآن الكريم
2.
ابن الفرضي، تاريخ
العلماء والرواة للعلم بالأندلس، ج.2 ، ص.144 رقم 1456 (ط. مكتبة الخانجي – القاهرة.1408هـ/1988م)
3.
ابن الكردبوس،
الإكتفاء، ج.2 ، ص.1004
4.
ابن بشكوال، كتاب
الصلة، ج.2 ، ص.499 (طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة.2008م)
5.
ابن حزم، جمهرة
أنساب العرب، ص.422 (تحقيق: عبد السلام هارون – دار المعارف – القاهرة)
6.
ابن خلكان، وفيات
الأعيان، ج.4 ص.511 (طبعة دار الكتب العلمية)
7.
ابن عذاري، البيان
المغرب، ج.1 .
8.
ابن قتيبة، الإمامة
والسياسة، ج.2.
9.
التاريخ الأندلسي.
10.
التوزري، الاكتفاء،
ج.2 ، (تحقيق: صالح بن عبد الله الغامدي)
11.
جذوة المقتبس،
(تحقيق: بشار عواد)
12.
الجزء المتمم لطبقات
ابن سعد ق.2
13.
سير أعلام النبلاء
.
14.
سير أعلام النبلاء،
ج.5 ، (طبعة دار الحديث – القاهرة.2006م)
15.
الشرف والتسامي للصَّلآَّبي صـ281 قادة فتح المغرب (1/221 ـ
309) .
16.
صالح بن قربة،
المسكوكات المغربية.
17.
الطبري: تاريخ
الأمم والملوك 2/598، وابن كثير: البداية والنهاية 7/171، والحِميري: الروض المعطار
في خبر الأقطار.
18.
عبد العزيز سالم
وأحمد مختار العبادي، تاريخ البحرية الإسلامية في المغرب والأندلس.
19.
عبد الملك ابن
حبيب، كتاب التاريخ، منشورات المجلس الأعلى للأبحاث العلمية، مدريد.
20.
الكامل في التاريخ
لابن الأثير - مراسلة يوليان لموسى بن نصير.
21.
مجهول، أخبار مجموعة
في فتح الأندلس، ص.30 (طبعة مدريد)
22.
المغرب في حلى
المغرب، ج.2 .
23.
المقري: نفح الطيب
1/257.
24.
المقري، نفح الطيب،
ج.1 .
25.
ياقوت الحموي،
معجم البلدان، ج.3.
[8] ) ابن الفرضي، تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس،
ج.2 ، ص.144 رقم 1456 (ط. مكتبة الخانجي – القاهرة.1408هـ/1988م)
[17] ) يعتقد البعض أنه موضع (دير الجماجم) القريب من
الكوفة. لكن المتمعن في نصّ خطبة موسى بن نصير سيتبين له أن موسى قالها أمام جمع من
القيروانيين، فالخطبة –على ما يبدو- قيلت بالقيروان لا بالعراق. وإذا صح هذا فـ(ذات
الجماجم) هي غير (دير الجماجم).
[27] ) الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/598، وابن كثير:
البداية والنهاية 7/171، والحِميري: الروض المعطار في خبر الأقطار ص33.
[37] ) ستنتج هذا من أن طارقًا منحدر من عائلة كانت
-فيما يظهر- سابقة إلى الإسلام، فهو طارق بن زياد بن عبد الله، ثم يبدأ في نسبه ظهور
الأسماء البربرية من بعد عبد الله كما في النسب الذي أورده ابن عذاري في البيان المغرب:
«طارق بن زياد بن عبد الله بن ولغو بن ورنجوم بن نبرغاسن بن ....». فمنه نتوقع أن يكون
جده عبد الله هو أول من أسلم من عائلته فتسمى بعبد الله، أو أن يكون أبو جده «ولغو»
هو أول مَنْ أسلم، ولكنه احتفظ باسمه كما هو ثم سمَّى ولده عبد الله؛ لذا فمن الطبيعي
أن يكتسب الحفيد لغة العرب ويتقنها، كما ستأتي فيما بعد خطبته الشهيرة لدى فتحه الأندلس،
وفيها يظهر تمكُّنه في العربية ولسانها إن نحن أخذنا بقول الذين يرجِّحُون ثبوتها.