كيف يُعيد اقتصاد المنصات تعريف العمل؟ استكشف المزايا، المخاطر، ودور الابتكار التكنولوجي في تشكيل سوق العمل العالمي.
شهد العقد الأخير تحولاً جذريًا في المشهد الاقتصادي العالمي، مدفوعًا بالثورة الرقمية وتوسع الاتصال بالإنترنت.
في قلب هذا التحول يبرز "اقتصاد المنصات" (Platform Economy) كنموذج اقتصادي جديد يُعيد تعريف كيفية إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها واستهلاكها.
لم تعد الشركات مجرد كيانات تُقدم منتجاتها أو خدماتها بشكل مباشر، بل أصبحت تعمل كوسطاء، تُنشئ مساحات رقمية تجمع بين الأطراف المختلفة – سواء كانوا مستهلكين ومقدمي خدمات، أو مطورين ومستخدمين، أو حتى شركاء أعمال – لتسهيل التفاعلات والمعاملات.
يُشكل اقتصاد المنصات نتاجًا مباشرًا للتقدم التكنولوجي، حيث أتاحت البنية التحتية الرقمية، وتوفر البيانات الضخمة، وقدرات الذكاء الاصطناعي، إنشاء نماذج أعمال تُقدم قيمة هائلة من خلال الشبكات.
من تطبيقات طلب السيارات مثل "أوبر"، إلى منصات الإقامة المشتركة مثل "إير بي إن بي"، ومنصات العمل الحر مثل "أب وورك"، تُهيمن هذه المنصات على حياتنا اليومية، وتُغير عادات الاستهلاك، وتُعيد تشكيل أسواق العمل بشكل عميق.
لا يقتصر تأثيرها على القطاع التكنولوجي فحسب، بل يمتد ليشمل قطاعات تقليدية مثل التجزئة، الخدمات اللوجستية، التعليم، وحتى الرعاية الصحية.
على الرغم من الفرص الهائلة التي يُقدمها اقتصاد المنصات، من زيادة الكفاءة وخفض التكاليف وتوفير فرص عمل جديدة، إلا أنه يطرح أيضًا تحديات كبيرة.
تتراوح هذه التحديات بين قضايا حماية العمال وحقوقهم، إلى تحديات مكافحة الاحتكار والمنافسة العادلة، وصولاً إلى مسائل خصوصية البيانات والأمن السيبراني.
إن فهم هذه الديناميكيات أمر بالغ الأهمية لكل من صُنَّاع السياسات، الشركات، والعمال، لتوجيه هذا التحول نحو مستقبل أكثر إنصافًا واستدامة.
تهدف هذه المقالة إلى استكشاف اقتصاد المنصات بعمق، بدءًا من تعريف مفهومه ونماذج الأعمال الرئيسية التي يتبناها، مرورًا بالمزايا والفرص التي يُقدمها.
كما سنتناول التحديات الأساسية التي يُثيرها هذا الاقتصاد، ونختتم بالنظر في تأثيره على مستقبل العمل، وكيف يمكننا التكيف مع هذا الواقع الجديد والاستفادة منه بأقصى قدر ممكن.
1. مفهوم اقتصاد المنصات ونشأته
يُعد اقتصاد المنصات ظاهرة حديثة نسبيًا، ولكنه يُشكل تطورًا طبيعيًا للتحول الرقمي الذي بدأ منذ عقود.
1.1 تعريف اقتصاد المنصات
يمكن تعريف "اقتصاد المنصات" على أنه نظام اقتصادي يتم فيه تسهيل التفاعلات التجارية والاجتماعية من خلال منصات رقمية.
هذه المنصات تعمل كوسيط بين طرفين أو أكثر (عادةً ما يُعرفون بالمستخدمين المتعددين أو "multi-sided users")، وتُقدم البنية التحتية التكنولوجية والقواعد التي تُمكن هذه التفاعلات.
تتميز المنصات بقدرتها على تجميع عدد كبير من المستخدمين، وتقديم خدمات تُعزز التفاعلات المباشرة، والاستفادة من تأثيرات الشبكة، حيث تزداد قيمة المنصة كلما زاد عدد مستخدميها.
هذا يُميزها عن نماذج الأعمال الخطية التقليدية التي تُركز على الإنتاج والتوزيع المباشر للسلع أو الخدمات[1].
1.2 أنواع المنصات الرئيسية
يمكن تصنيف المنصات إلى عدة أنواع رئيسية بناءً على وظيفتها الأساسية:
- منصات المعاملات (Transactional Platforms): تُسهل هذه المنصات تبادل السلع أو الخدمات أو المعلومات مباشرةً بين المستخدمين. هي الأكثر شيوعًا وتتضمن:
- منصات السوق (Marketplaces): مثل "أمازون" (Amazon) و"إي باي" (eBay)، حيث تُجمع البائعين والمشترين.
- منصات عند الطلب (On-Demand Platforms): مثل "أوبر" (Uber) و"ديدي" (Didi)، التي تُربط مقدمي الخدمات (السائقين، عمال التوصيل) بالعملاء الفوريين.
- منصات الاقتصاد التشاركي (Sharing Economy Platforms): مثل "إير بي إن بي" (Airbnb) و"تورو" (Turo)، التي تُمكن المستخدمين من مشاركة الأصول غير المستغلة (منازل، سيارات).
- منصات الابتكار (Innovation Platforms): تُوفر هذه المنصات مجموعة من الأدوات والخدمات التي تسمح للمطورين الخارجيين ببناء منتجات أو خدمات تُكمل المنصة الأساسية. الأمثلة تشمل أنظمة التشغيل (iOS، أندرويد) التي تُمكن مطوري التطبيقات، أو منصات مثل "سيلزفورس" (Salesforce) التي تُقدم واجهات برمجية لتطوير حلول أعمال مخصصة.
- منصات المحتوى (Content Platforms): تُمكن المستخدمين من إنشاء واستهلاك المحتوى. مثل "يوتيوب" (YouTube) للفيديوهات، و"فيسبوك" (Facebook) و"تويتر" (Twitter) للمحتوى الاجتماعي، و"سبوتيفاي" (Spotify) للموسيقى.
1.3 العوامل الدافعة لنمو اقتصاد المنصات
لم يظهر اقتصاد المنصات بشكل عفوي، بل كان نتيجة لتفاعل عدة عوامل تكنولوجية واقتصادية واجتماعية:
- الانتشار الواسع للإنترنت والأجهزة الذكية: سمح بإنشاء شبكة واسعة من المستخدمين المتصلين باستمرار.
- تطور الحوسبة السحابية: قلل من تكاليف البنية التحتية وسهل توسيع نطاق الخدمات بسرعة.
- البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي: مكن المنصات من فهم سلوك المستخدمين، تقديم توصيات مُخصصة، وتحسين الكفاءة التشغيلية.
- تزايد الرغبة في المرونة: سواء من جانب المستهلكين الذين يبحثون عن خدمات فورية، أو من جانب الأفراد الذين يسعون إلى فرص عمل مرنة.
- انخفاض تكاليف المعاملات: قللت المنصات بشكل كبير من تكاليف البحث، التفاوض، وإتمام المعاملات بين الأطراف.
2. نماذج الأعمال الرئيسية في اقتصاد المنصات
تُشكل نماذج الأعمال في اقتصاد المنصات جزءًا حيويًا من نجاحها، حيث تُحدد كيفية توليد القيمة والإيرادات.
2.1 نموذج السوق (Marketplace Model)
يُعد نموذج السوق أحد أقدم وأشهر نماذج الأعمال في اقتصاد المنصات.
في هذا النموذج، تُوفر المنصة مساحة رقمية تُمكن البائعين من عرض منتجاتهم أو خدماتهم، وتُمكن المشترين من تصفحها وشرائها.
لا تُنتج المنصة نفسها السلع أو الخدمات، بل تُركز على تسهيل عملية التبادل، حل مشكلة الثقة بين الأطراف، ومعالجة المدفوعات.
الأمثلة البارزة تشمل:
- التجارة الإلكترونية: "أمازون" و"إي باي"، حيث يُمكن لأي شخص تقريبًا البيع والشراء.
- الخدمات المهنية: "فايفر" (Fiverr) و"أب وورك" (Upwork)، التي تربط المستقلين (freelancers) بالعملاء الذين يبحثون عن خدمات معينة.
تُحقق المنصات أرباحها عادةً عن طريق فرض عمولة على كل معاملة تُجرى عبرها، أو رسوم اشتراك على البائعين، أو رسوم إعلانية لزيادة ظهور المنتجات[2].
2.2 نموذج عند الطلب (On-Demand Model)
يركز هذا النموذج على توفير الخدمات الفورية عند الطلب.
تربط المنصة العملاء الذين يحتاجون إلى خدمة معينة بمقدمي هذه الخدمة المتاحين في الوقت والمكان المطلوبين.
يتميز هذا النموذج بالسرعة والكفاءة والمرونة. تشمل الأمثلة الأكثر شهرة:
- خدمات النقل: "أوبر" و"ليفت" (Lyft)، حيث تُربط الركاب بالسائقين.
- خدمات توصيل الطعام: "ديدي فود" (Didi Food)، "طلب وادفع" (Talabat) و"أوبر إيتس" (Uber Eats)، التي تُربط المستهلكين بالمطاعم وعمال التوصيل.
- خدمات التنظيف والصيانة: تطبيقات تُقدم خدمات منزلية فورية.
تُحقق هذه المنصات إيراداتها من خلال عمولة على كل خدمة، أو رسوم خدمة تُفرض على العملاء، أو مزيج من الاثنين.
2.3 نموذج الاقتصاد التشاركي (Sharing Economy Model)
يُمكن هذا النموذج الأفراد من تأجير أو مشاركة الأصول غير المستغلة التي يمتلكونها (مثل المنازل، السيارات، الدراجات) مع الآخرين، مما يُقلل من الحاجة إلى الشراء ويزيد من كفاءة استخدام الموارد.
يُعزز هذا النموذج فكرة الاستهلاك التعاوني. الأمثلة البارزة تتضمن:
- الإقامة: "إير بي إن بي" (Airbnb)، التي تُمكن الأفراد من تأجير غرفهم أو منازلهم للمسافرين.
- السيارات: "تورو" (Turo)، التي تسمح لأصحاب السيارات بتأجير سياراتهم للآخرين.
تُحقق المنصات أرباحها عادةً من خلال فرض رسوم خدمة على كل من المُقدم والمُستقبل للخدمة، أو نسبة مئوية من قيمة الإيجار[3].
2.4 نموذج الاشتراك (Subscription Model)
على الرغم من أن هذا النموذج ليس حصريًا للمنصات، إلا أنه يُستخدم بشكل متزايد لتوفير الوصول إلى المحتوى أو الخدمات على المنصات.
يدفع المستخدمون رسومًا دورية (شهرية أو سنوية) للحصول على وصول غير محدود إلى المحتوى أو مجموعة من الخدمات.
الأمثلة تشمل:
- منصات البث: "نتفليكس" (Netflix) و"سبوتيفاي" (Spotify)، التي تُقدم مكتبات ضخمة من المحتوى.
- منصات البرمجيات كخدمة (SaaS): تُقدم أدوات برمجية (مثل "مايكروسوفت 365"، "سلاك") عبر الإنترنت باشتراك شهري.
يُوفر هذا النموذج تدفقًا مستقرًا للإيرادات للمنصة ويُشجع على بناء علاقات طويلة الأمد مع المستخدمين.
3. المزايا والفرص التي يقدمها اقتصاد المنصات
يُقدم اقتصاد المنصات العديد من المزايا والفرص التي تُساهم في نمو الاقتصاد وتُغير من طبيعة الخدمات والعمل.
3.1 زيادة الكفاءة والابتكار
تُمكن المنصات من ربط العرض والطلب بشكل أكثر كفاءة من النماذج التقليدية.
فبفضل الخوارزميات وتحليل البيانات، يمكن للمنصة مطابقة المستخدمين بشكل أسرع وأكثر دقة، مما يُقلل من وقت الانتظار والتكاليف.
هذا يُؤدي إلى تحسين استغلال الموارد (مثل السيارات غير المستغلة أو الغرف الشاغرة) ويُقلل من الاحتكاكات في السوق.
كما تُعزز المنصات الابتكار من خلال توفير بيئة تُمكن الشركات الصغيرة ورواد الأعمال من الوصول إلى قاعدة عملاء واسعة دون الحاجة لاستثمارات رأسمالية ضخمة في البنية التحتية التقليدية[4].
3.2 الوصول إلى الأسواق والشمول المالي
تُوفر المنصات فرصًا جديدة للوصول إلى الأسواق العالمية والمحلية للأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة.
يمكن لمقدمي الخدمات والأعمال الصغيرة الوصول إلى قاعدة عملاء ضخمة عبر الإنترنت، مما يُمكنهم من التوسع دون قيود جغرافية.
كما تُساهم المنصات في الشمول المالي من خلال توفير فرص دخل للأفراد الذين قد لا يمتلكون فرص عمل تقليدية، أو الذين يعيشون في مناطق نائية، أو الذين لديهم قيود تُعيق وصولهم إلى سوق العمل التقليدي.
3.3 مرونة العمل وتوليد الدخل
تُعد المرونة أحد أبرز المزايا التي تُقدمها المنصات للعمال. يمكن للأفراد العمل لساعات يختارونها، وفي أوقات تُناسب جداولهم الشخصية، مما يُوفر لهم استقلالًا أكبر في العمل.
هذا النموذج يُعرف غالبًا بـ "اقتصاد العمل الحر" أو "Gig Economy".
يُمكن للأفراد استخدام مهاراتهم وقدراتهم لتوليد دخل إضافي أو حتى دخل أساسي، مما يُعزز من قدراتهم الاقتصادية ويُقلل من الاعتماد على الوظائف التقليدية.
هذه المرونة جذابة بشكل خاص للطلاب، الآباء والأمهات، والمتقاعدين، أو أولئك الذين يبحثون عن مصادر دخل متعددة.
3.4 تعزيز المنافسة وخفض الأسعار
من خلال تسهيل دخول مقدمي الخدمات الجدد إلى السوق، تُعزز المنصات المنافسة، مما يُؤدي غالبًا إلى خفض الأسعار وتحسين جودة الخدمات للمستهلكين.
فعندما يكون لدى العملاء خيارات متعددة، يُضطر مقدمو الخدمات إلى التنافس على السعر والجودة، مما يُفيد المستهلك النهائي.
كما تُقدم المنصات للمستهلكين سهولة في المقارنة بين الخدمات والأسعار وتقييمات العملاء، مما يُساعدهم على اتخاذ قرارات شراء مُستنيرة.
4. التحديات الرئيسية لاقتصاد المنصات
على الرغم من الفرص التي يُقدمها، يُثير اقتصاد المنصات عددًا من التحديات الجوهرية التي تتطلب اهتمامًا من الحكومات والشركات والمجتمع المدني.
4.1 قضايا حقوق العمال وتصنيفهم
يُعد تصنيف العمال في اقتصاد المنصات أحد أكبر التحديات القانونية والاجتماعية.
فمعظم المنصات تُصنف العاملين لديها كـ "متعاقدين مستقلين" وليسوا "موظفين".
هذا التصنيف يُعفي المنصات من تقديم مزايا مثل الحد الأدنى للأجور، التأمين الصحي، الإجازات مدفوعة الأجر، أو الحق في تكوين نقابات.
يُجادل النقاد بأن هذا يُعرض العمال للاستغلال ويُقلل من حمايتهم الاجتماعية والاقتصادية.
هناك دعوات متزايدة لتعديل قوانين العمل لتشمل هؤلاء العمال، أو إنشاء فئة تصنيف جديدة تُوفر لهم بعض المزايا دون التضحية بالمرونة التي يُقدمها هذا النموذج[5].
4.2 المنافسة والاحتكار
تُعرف المنصات بقدرتها على تحقيق "تأثيرات الشبكة"، حيث تزداد قيمتها كلما زاد عدد مستخدميها.
هذا يُمكن المنصات الكبيرة من الهيمنة على أسواقها، مما قد يُؤدي إلى ممارسات احتكارية.
يمكن للمنصات الكبيرة أن تفرض شروطًا غير عادلة على مقدمي الخدمات، أو تُقلل من العمولة التي يتقاضونها، أو حتى تُقلد الخدمات الناجحة التي يُقدمها أطراف ثالثة على منصتها.
هذا يُثير تساؤلات حول كيفية ضمان المنافسة العادلة وحماية اللاعبين الأصغر في السوق.
4.3 خصوصية البيانات والأمن السيبراني
تعتمد المنصات بشكل كبير على جمع وتحليل كميات هائلة من بيانات المستخدمين (المالية، الموقع، السلوك، التفضيلات) لتخصيص الخدمات وتحسينها.
هذا يُثير مخاوف كبيرة بشأن خصوصية البيانات وكيفية استخدامها وحمايتها.
فخرق البيانات أو إساءة استخدامها يمكن أن يُعرض المستخدمين للمخاطر المالية والاجتماعية.
تُطالب المنظمات والأفراد بتشريعات أقوى لحماية البيانات (مثل اللائحة العامة لحماية البيانات GDPR) وضمان شفافية استخدام المنصات للبيانات[6].
4.4 التحديات التنظيمية والضرائب
نظرًا لنموها السريع وطبيعتها العابرة للحدود، تُشكل المنصات تحديًا كبيرًا للهيئات التنظيمية والحكومات.
تُواجه الحكومات صعوبة في تكييف القوانين القائمة (مثل قوانين العمل، قوانين النقل، قوانين الضرائب) لتناسب نماذج الأعمال الجديدة هذه.
هناك حاجة إلى أطر تنظيمية تُوازن بين تشجيع الابتكار وحماية المستهلكين والعمال، وضمان دفع المنصات والعمال للضرائب المستحقة بشكل عادل.
4.5 الاعتمادية وجودة الخدمة
على الرغم من أن المنصات تُركز على تسهيل التفاعلات، إلا أن جودة الخدمة قد تختلف بشكل كبير نظرًا لتنوع مقدمي الخدمات.
قد يُواجه العملاء تحديات في حل النزاعات، أو التعامل مع مقدمي الخدمات غير الموثوق بهم.
كما يُمكن أن تُصبح المنصات شديدة الاعتماد على تقييمات المستخدمين، والتي قد لا تكون دائمًا مُنصفة أو تُعبر عن الواقع بشكل كامل.
هذه الاعتمادية تُلقي بظلالها على قدرة المنصة على ضمان مستوى ثابت من الجودة.
5. مستقبل العمل في ظل اقتصاد المنصات
يُغير اقتصاد المنصات بشكل عميق طبيعة العمل، ويُثير تساؤلات حول مستقبل الوظائف التقليدية والاحتياجات المهارية.
5.1 صعود اقتصاد العمل الحر (Gig Economy)
يُعد "اقتصاد العمل الحر" أو "Gig Economy" المظهر الأبرز لتأثير اقتصاد المنصات على مستقبل العمل.
يُشير هذا المصطلح إلى نظام السوق الذي يعتمد على العمال المستقلين والمقاولين المستقلين للقيام بمهام قصيرة الأجل أو "مهمات" (gigs) بدلاً من الوظائف بدوام كامل.
هذه المرونة، بينما تُقدم فرصًا جديدة للدخل، تثير أيضًا مخاوف بشأن عدم الاستقرار الوظيفي، نقص المزايا، وصعوبة التخطيط المالي طويل الأجل للعمال.
يُتوقع أن يستمر هذا الاتجاه في النمو، مما يتطلب من الأفراد والمؤسسات التكيف معه[7].
5.2 المهارات المطلوبة والتعلم المستمر
يتطلب مستقبل العمل في اقتصاد المنصات مهارات جديدة.
فبينما تُصبح المهام الروتينية قابلة للأتمتة، تزداد الحاجة إلى المهارات البشرية الفريدة مثل الإبداع، التفكير النقدي، حل المشكلات المعقدة، والذكاء العاطفي.
كما يُصبح التعلّم المستمر وتطوير المهارات (Reskilling and Upskilling) أمرًا حيويًا للعمال ليظلوا قادرين على المنافسة في سوق عمل متغير.
ستلعب المنصات نفسها دورًا في توفير فرص للتدريب وتطوير المهارات لمقدمي الخدمات لديها.
5.3 دور السياسات الحكومية والحماية الاجتماعية
لمواجهة التحديات التي يفرضها اقتصاد المنصات على العمال، يتزايد الضغط على الحكومات لتطوير سياسات جديدة.
تشمل هذه السياسات:
- إصلاح قوانين العمل: لتوفير حماية أكبر لعمال المنصات، سواء من خلال إعادة تصنيفهم أو إنشاء فئة ثالثة تجمع بين المرونة والحماية.
- أنظمة الحماية الاجتماعية: تطوير آليات لضمان حصول عمال المنصات على مزايا مثل التأمين الصحي، معاشات التقاعد، وتعويضات البطالة، حتى لو لم يكونوا موظفين تقليديين.
- التأهيل والتدريب: الاستثمار في برامج التدريب المهني لتجهيز القوى العاملة بالمهارات اللازمة للعمل في اقتصاد المنصات والوظائف المستقبلية.
5.4 نماذج العمل الهجينة والمنصات المُدارة
مع تطور اقتصاد المنصات، قد نشهد ظهور نماذج عمل هجينة تجمع بين مزايا المنصات والهياكل التقليدية.
على سبيل المثال، قد تُقدم الشركات وظائف بدوام جزئي مرن عبر المنصات، أو قد تُصبح بعض المنصات أكثر انخراطًا في إدارة وتدريب عمالها لضمان جودة الخدمة.
هذا يُشير إلى تحول محتمل نحو نماذج أكثر استدامة وتوازنًا تُلبي احتياجات كل من المنصات والعمال[8].
5.5 التحول نحو اقتصاد المنصات المسؤول
يتزايد التركيز على بناء "اقتصاد منصات مسؤول" يُوازن بين الابتكار والربحية من جهة، والمسؤولية الاجتماعية وحماية العمال من جهة أخرى.
هذا يتطلب من المنصات تبني ممارسات عمل عادلة، والاستثمار في سلامة العمال ورفاهيتهم، والتعاون مع الجهات التنظيمية والمجتمعات التي تعمل فيها.
ستُحدد هذه التطورات الاتجاه الذي سيأخذه مستقبل العمل في ظل اقتصاد المنصات.
الخاتمة
لقد أحدث اقتصاد المنصات تحولًا عميقًا في المشهد الاقتصادي العالمي، مُعيدًا تعريف نماذج الأعمال، وأنماط الاستهلاك، ومستقبل العمل نفسه.
فمن خلال قدرتها على ربط الملايين من المستخدمين وتسهيل التفاعلات بكفاءة غير مسبوقة، قدمت المنصات فرصًا هائلة للابتكار، وزيادة الكفاءة، وتوليد الدخل.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار التحديات الكبيرة التي تُثيرها، خاصة فيما يتعلق بحقوق العمال، المنافسة العادلة، وخصوصية البيانات.
تُظهر هذه التحديات أن نجاح اقتصاد المنصات على المدى الطويل يعتمد ليس فقط على الابتكار التكنولوجي، بل أيضًا على القدرة على تطوير أطر تنظيمية وسياسات اجتماعية تُوازن بين مرونة هذا النموذج وحماية الأفراد.
إن مستقبل العمل يتجه نحو المزيد من المرونة والأتمتة، مما يتطلب من القوى العاملة التعلّم المستمر وتطوير مهارات جديدة، ومن الحكومات التفكير بشكل إبداعي في آليات الحماية الاجتماعية التي تتجاوز الوظيفة التقليدية.
في الختام، يُشكل اقتصاد المنصات قوة اقتصادية لا يمكن إنكارها، وهي قوة ستُواصل تشكيل عالمنا بطرق جديدة ومثيرة.
إن قدرتنا على تسخير إمكاناته مع معالجة تحدياته هي التي ستُحدد ما إذا كان هذا التحول سيُؤدي إلى مستقبل أكثر إنصافًا، استدامة، وازدهارًا للجميع.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
ما هو اقتصاد المنصات؟
اقتصاد المنصات هو نظام اقتصادي تُسهل فيه التفاعلات التجارية والاجتماعية من خلال منصات رقمية تُشكل وسطاء يجمعون بين الأطراف المختلفة (مثل المستهلكين ومقدمي الخدمات) وتُوفر البنية التحتية التكنولوجية لهذه التفاعلات.
ما هي أبرز نماذج الأعمال في اقتصاد المنصات؟
تشمل أبرز نماذج الأعمال: نموذج السوق (مثل أمازون)، نموذج عند الطلب (مثل أوبر)، نموذج الاقتصاد التشاركي (مثل إير بي إن بي)، ونموذج الاشتراك (مثل نتفليكس). تُحقق هذه النماذج الإيرادات بطرق مختلفة كالعُمولات أو رسوم الاشتراك.
ما هي المزايا الرئيسية لاقتصاد المنصات؟
يُقدم اقتصاد المنصات زيادة في الكفاءة والابتكار، وصولاً أوسع إلى الأسواق، مرونة أكبر في العمل وتوليد الدخل للأفراد، وتعزيزًا للمنافسة مما قد يُؤدي إلى خفض الأسعار وتحسين جودة الخدمات للمستهلكين.
ما هي التحديات الرئيسية التي يواجهها اقتصاد المنصات؟
تتضمن التحديات الرئيسية قضايا حقوق العمال وتصنيفهم (كمتعاقدين مستقلين أو موظفين)، المخاوف المتعلقة بالاحتكار والمنافسة، قضايا خصوصية البيانات والأمن السيبراني، التحديات التنظيمية والضريبية، وتفاوت جودة الخدمة.
كيف يُؤثر اقتصاد المنصات على مستقبل العمل؟
يُؤثر اقتصاد المنصات على مستقبل العمل من خلال صعود اقتصاد العمل الحر (Gig Economy)، الحاجة المتزايدة للمهارات الجديدة والتعلّم المستمر، ضرورة تطوير سياسات حكومية وأنظمة حماية اجتماعية جديدة للعمال، وظهور نماذج عمل هجينة تُوازن بين المرونة والاستقرار.
المراجع
- ↩ Evans, D. S., & Schmalensee, R. (2016). *Matchmakers: The New Economics of Multisided Platforms*. Harvard Business Review Press. Retrieved from https://books.google.com/books?id=bK5sjwEACAAJ
- ↩ Hagiu, A., & Wright, J. (2015). "Multi-sided Platforms". *International Journal of Industrial Organization*, 43, 162-171. Retrieved from https://papers.ssrn.com/sol3/papers.cfm?abstract_id=2557999
- ↩ Sundararajan, A. (2016). *The Sharing Economy: The End of Employment and the Rise of Crowd-Based Capitalism*. MIT Press. Retrieved from https://books.google.com/books?id=qYQoDAAAQBAJ
- ↩ European Commission. (2016). "A European Agenda for the collaborative economy". Retrieved from https://ec.europa.eu/growth/single-market/services/collaborative-economy_en
- ↩ ILO. (2021). "World Employment and Social Outlook 2021: The role of digital labour platforms in transforming the world of work". International Labour Organization. Retrieved from https://www.ilo.org/global/research/global-reports/weso/2021/lang--en/index.htm
- ↩ OECD. (2018). "The Future of Work: OECD Employment Outlook 2018". Organisation for Economic Co-operation and Development. Retrieved from https://www.oecd.org/employment/employment-outlook-2018-9789264303421-en.htm
- ↩ Katz, L. F., & Krueger, A. B. (2019). "The Rise and Nature of Alternative Work Arrangements in the United States, 1995-2015". *ILR Review*, 72(2), 297-326. Retrieved from https://www.nber.org/system/files/working_papers/w22668/w22668.pdf
- ↩ World Economic Forum. (2020). "The Future of Jobs Report 2020". Retrieved from https://www.weforum.org/reports/the-future-of-jobs-report-2020/
تعليقات