المواطنة والتعايش السلمي وقبول الاخر ضرورة شرعية ووطنية
أولا : مقدمة البحث
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فإن الله خلق الخلق من أصل واحد فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أيها الناس، ألا إن ربكم عز وجل واحد، ألا وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى؟ ألا قد بلغت ؟، قالوا: نعم قال: ليبلغ الشاهد الغائب" وجعل الأصل في العلاقة بين الناس التعارف والمحبة والإخاء والسلم وبذلك تكون الحروب والفتن أمراً عارضاً غير أصلي، وإنما شرع القتال دفاعاً عن النفوس والأديان عامة حتى عند غير المسلمين قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج: 40)، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190)، وقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج: 39) ومع أن الخلاف بين البشرية أمر لابد منه فقد جعل الإسلام للحرب قوانين تحكمها فلا إفساد للحرث والنسل ولا قتل لغير المقاتل من الشيوخ والنساء والأطفال، ومع كل ذلك يحرم على المسلم الغدر والخيانة.
قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ، وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} (الأنفال: 58 – 59)، وفي الصفحات التالية سأتناول موضوع المواطنة و التعايش السلمي الذي يعد حق لكل إنسان في المجتمع يتمتع بأقل حقوقه من مواطنة وتعايش سلمي وحرية والاسلام يحث على المواطنة والتعايش السلمي والحرية وينبذ العنف والظلم والديكتاتورية ويرفض ذلك.
إِن المواطنة مفاعلة – أي تفاعل – بين الإِنسان المواطن والوطن الذي ينتمي إليه ويعيش فيه، وهي علاقة تفاعل، لأنها ترتب للطرفين وعليهما العديد من الحقوق والواجبات، فلابد لقيام المواطنة أن يكون انتماء المواطن وولاؤه كاملين للوطن يحترم هويته ويؤمن بها وينتمي إليها ويدافع عنها بكل ما في عناصر هذه الهوية من ثوابت اللغة والتاريخ والقيم والآداب العامة، والأرض التي تمثل وعاء الهوية والمواطنين، وولاء المواطن لوطنه يستلزم البراء من أعداء هذا الوطن ما دام استمر هذا العداء.
وكما أن للوطن هذه الحقوق – التي هي واجبات وفرائض – على المواطن، فإن لهذا المواطن على وطنه ومجتمعه وشعبه وأمته حقوقا، كذلك من أهمها المساواة في تكافؤ الفرص، وانتفاء التمييز في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسبب اللون أو الطبقة، أو الاعتقاد، مع تحقيق التكافل الاجتماعي الذي يجعل الأمة جسدًا واحدًا، والشعب كيانًا مترابطًا، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر أعضاء الجسد الواحد بالتكافل والتضامن والتساند والإِنقاذ.
وإذا كان التطور الحضاري الغربي لم يعرف المواطنة وحقوقها إِلا بعد الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بسبب التمييز على أساس الدين بين الكاثوليك والبروتستانت، وعلى أساس اللون في التمييز ضد الملونين‘ فإن المواطنة الكاملة والمساواة في الحقوق والواجبات قد اقترنت بظهور الإِسلام، وتأسيس الدولة الإِسلامية الأولى في المدينة المنورة سنة واحد هجرية وسنة 622 ميلادية، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحت قيادته.
فالإِنسان – في الرؤية الإِسلامية – هو مطلق الإِنسان، والتكريم الإِلهي هو لجميع بني آدم، ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70)، والخطاب القرآني موجه أساسًا إلى عموم الناس، ومعايير التفاضل بين الناس هي التقوى المفتوحة أبوابها أمام الجميع ﴿إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13)، بل قد جعل الإسلام الآخر الديني جزءا من الذات، وذلك عندما أعلن أن دين الله على امتداد تاريخ النبوات والرسالات هو دين واحد، وأن التنوع في الشرائع الدينية بين أمم الرسالات إنما هو تنوع في إِطار وحدة هذا الدين ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجًا ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً﴾ (المائدة: 48).
ثانيا : أهمية البحث
أهمية موضوع البحث من دراسة ظاهرة أزمة المواطنة والتعايش السلمي وقبول الآخر من مفاهيم وأسباب أدت في الطفو على سطح الأحداث في بعض الدول العربية وما تقود إليه – في حال استمرارها وتفاقمها – إلى العصف باستقرار الأوضاع السياسية في هذه الدول، وما يترتب على ذلك من حدوث عدة احتمالات مثل الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي والمشاكل الاقتصادية والمجتمعية.
إن دراسة أزمة المواطنة والتعايش السلمي يمثل أهمية بالغة للمجتمع، حيث في حال تطبيق النتائج العلمية لمثل هذه الأبحاث ، يمكن أن يجنب المجتمع الانزلاق نحو الاضطرابات وعدم الاستقرار وانتشار الجرائم ، وتمثل هذه الدراسة أهمية للباحث، الذي يهدف إلى أن تتضح المشكلة بكل أبعادها حتى يمكن تشخيصها والبحث عن سبيل العلاج. هذا بجانب التعرف على مفاهيم الشريعة الإسلامية في هذه المسألة.
ثالثا : مفاهيم البحث
1- مفهوم المواطنة :
تعددت آراء الكتاب في تحديد معنى المواطنة، وإن كان هناك، على الدوام ما يجمع بين هذه المفاهيم المعاني التي قيلت في هذا الصدد:- فالبعض يرى أن المواطنة نسبة إلى الوطن وهو مولد الإنسان والبلد الذي هو فيه، ويتسع معنى المواطنة ليتمثل التعلق بالبلد والانتماء إلى تراثه التاريخي ولغته وعاداته (محمد شمخان – 2011 ويكيبيديا، الموسوعة الحرة ص46).
وتحدد المواطنة حقوق وواجبات المواطن حتى يستطيع أن يعيش بسلام مع غيره على أساس المساواة وتكافؤ الفرص والعدل، من أجل بناء وتنمية الوطن والحفاظ على العيش المشترك فيه.
2- مفهوم التعايش السلمي
يتكون مصطلح "التعايش السلمي" من شقين، ولأجل الوصول إلى تحديد مفهوم شامل وجامع لهذا المصطلح، فسنتناول بالتحليل كل جزء من المصطلح على حدة.
أولاً: التعايش:
التعايش حالة اجتماعية مشتقة من (العيش)، والعيش كما جاء في لسان العرب: "العيش: الحياة ، وجاء في تاج العروس: "والتعايش: المعايشة: عاش معه، كقولهم: عاشره، والغالب في التعايش أن يكون بألفة ومودة" ، وورد في المعجم الوسيط أن: "تعايشوا: عاشوا على الألفة والمودة، ومنه التعايش، وعايشه: عاش معه، والعيش معناه الحياة، وما تكون به الحياة من المطعم والمشرب والدخل وغيره".
وبهذا يتبين أن لفظ التعايش يعني الاشتراك في الحياة على الألفة والمودة وهي على وزن تفاعل الذي يفيد وجود العلاقة المتبادلة بين الطرفين.
وقد عرفه التويجري بأنه: "اتفاق طرفين أو عدة أطراف على تنظيم وسائل العيش، أي: الحياة، فيما بينهم وفق قاعدة يتم تحديدها وتمهيد السبل المؤدية إليها".
وبذلك يتضح أن التعايش علاقة إنسانية تستهدف إثراء التجربة الإنسانية من خلال التواصل والتفاعل وتقوية العلاقات وصولاً إلى التكامل الإنساني.
وهناك من يعرف التعايش بأنه عبارة عن: "مجتمعات متكاملة يعيش فيها الناس من مختلف الأعراق والأجناس والأديان منسجمين مع بعضهم البعض، ولا يتطلب أدنى فكرة للتعايش سوى أن يعيش أعضاء هذه الجماعات معاً دون أن يقتل أحدهم الآخر".
ويؤيد هذا المفهوم القول بأن التعايش: هو القبول بوجود الآخر، والعيش معه جنباً إلى جنب دون سعي لإلغائه أو الإضرار به سواء كان هذا الآخر فرداً أو حزباً سياسياً أو طائفة دينية أو دولة مجاورة أو غير ذلك.
وحيث يكون التعايش يكون السلم، ذلك لأنه لا يمكن الفصل بينهما فالتعايش نتيجة طبيعية لحالة السلم التي لا يمكن أن تحدث إلا إذا توافرت لها مقومات معينة، فما السلم؟.
ثانياً: السلم:
السلم في اللغة: السلامة والسلام، وفي الأصل البراءة من العيب والآفات، والسلام اسم من أسماء الله تعالى لسلامته من النقص والعيب والفناء.
وقد اختار بعض أهل اللغة أنه من يسلم منه، واعترض على المعنى الأول، ورأى أن المعنى: أنه الذي يسلم الثقلان من جوره وظلمه، فهو في جميع أفعال سلام لا حيف ولا ظلم، ومنه تقول: سلم من الآفة سلامة وسلاماً إذا نجا، والمسالمة: المصالحة، ومنه قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "أسلم سالمها الله"، والسلم: الصلح، والسلم: المسالم، تقول: أنا مسالم لمن سالمني.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالدخول في السلم كافة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ): (البقرة: 208)، أي: "أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك".
وسمى الله تعالى الجنة دار السلام، فقال: (واللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (يونس: 25)، لخلوها من الآفات والتناقض والنكبات، وتحية المسلمين السلام والتسليم، وهو مصدر سلمت، ومعناه: الدعاء للإنسان بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه، وتأويله: التلخيص، والسلام كاف في إعطاء صاحبه الأمان، لقوله تعالى: (ولا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) (النساء:94)، وذلك أن السلم ضد الحرب، وهو التسليم لله تعالى بلا منازعة، وقبول ما أتى به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهو كاف في حقن الدم وحفظ العرض ولمال حتى لو كان منافقاً قال تعالى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا ولَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ولَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وإن تُطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 14).
رابعا : الشريعة الإسلامية وحقوق المواطنة وقبول الآخر
الإسلام دين سمح ودين حريه ويكف للانسان حق العيش والحياة والحرية والاختيار وحق العمل والتعلم وكافة حقوق الحياة سواء كان للمسلم أو غير المسلم وفيما يلي نستعرض عدد من أبرز حقوق المواطنة التي يكفلها ويدافع عنها الإسلام.
1- حق المواطن في نظام ديمقراطي:-
حق الإنسان المسلم أن يعيش في ظل نظام حكم ديمقراطي فكل إنسان له أن يشارك في إدارة الشئون العامة في بلده إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون بحرية وأن ينتخب في انتخابات نزيهة تجري دورياً بالاقتراع العام على قدم المساواة بين الناخبين بالتصويت السري، تضمن التعبير الحر عن إرادة الناخبين.
وهذا ما نصت عليه اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية 1966، ونص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 21 منه على أن لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشئون العامة للبلاد .. وفي تقلد الوظائف العامة .
وتتفق الوثائق الدولية مع التصور الإسلامي في هذا الشأن فأمر الرياسة العليا موكولاً إلى الأمة تختار له من تشاء، كما ورد في كتاب الشيخ عبد الوهاب خلاف، السياسة الشرعية 1923، فالله سبحانه وتعالى جعل أمر المسلمين شورى بينهم"والَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ".
كذلك قرر الإسلام مسؤولية رجال الحكومة أمام الأمة، وهذا واضح من قول الرسول عليه السلام: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم"، وقوله عليه السلام "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" ونحى الخلفاء الراشدون هذا المنحى، "فأبو بكر" عند توليه الخلافة قال "إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني".
ويتفق علماء الأمة على أن دعائم الحكم في الإسلام ثلاثة: رئاسة الدولة عن طريق البيعة العامة، الشورى، الإقرار بمسؤولية ولي الأمر.
2- حق الإنسان في الحياة:-
وهو أثمن ما يمتلكه الإنسان في الوجود، حياته، وحرمت الشريعة الإسلامية قتل النفس إلا بالحق، "كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى"، "ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أوْلِي الأَلْبَابِ" البقرة الآية 178 – 179.
وفي سورة المائدة الآية 32: "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا".
وإذا كان القصاص هو العقوبة الدنيوية لمرتكب جريمة القتل، فهناك عقوبة أخرى، في قوله تعالى (ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمً)، سورة النساء الآية 93.
3- حق الإنسان في الأمن والحرية الشخصية:-
تكفل الشريعة الإسلامية للإنسان أن يعيش حياته بأمان "إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا" خطبة النبي عليه الصلاة والسلام من عرفات، حجة الوداع. وكذلك قوله "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".
وشددت الشريعة الإسلامية على عقوبة السرقة لما فيها من اعتداء على طمأنينة الفرد، وجزاء الذين يهددون أمن المجتمع ويعيثون فساداً في الأرض القتل والصلب (إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) المائدة آية 33.
4- حرية الرأي:-
كفل الإسلام حرية الرأي، والوقوف بشجاعة بجانب الحق والعدل، (الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ) سورة الحج الآية 41.
والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان".
بيد أن حرية الرأي ليست مطلقة بلا حدود وإلا كانت الفوضى بعينها فهناك ضوابط وقيود تستهدف حماية النظام العام والأخلاق والفضيلة، فلا يكون الفرد الذي يبدي رأيه شتاماً ولا عياباً ولا قاذفاً ولا كاذباً أو يحرض على الاستخفاف بالشريعة الإسلامية أو الدعوة لإثارة الشغب ضد نظام الحكم القائم: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، (ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ).
يتعين ألا تتعارض حرية الرأي مع الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
كذلك حظر كل الدعاوي والآراء القائمة على الكراهية الدينية أو التفوق العنصري أو التحريض على العنف.
وتتطلب حرية الرأي من الفرد عند ممارستها أن يفكر قبل أن ينطق وأن يلم بدقائق وحقائق الموضوع قبل أن يجزم فيه برأي وأن يبحث ويتحرى لتجتمع له كل الحقائق، وأن لا ينطق عن هوى أو جهل ..
وامتداد لحرية الرأي، حرية الاجتماع، إلا أنه يتعين أن تكون أغراض الاجتماع مشروعة لا تؤدي إلى الإضرار بالآخرين كالتحريض على ارتكاب الجرائم أو الدعوة إلى قلب نظام الحكم بطرق غير دستورية أو الدعوة لإثارة الفتنة بين فئات المجتمع وطوائفه.
5- حرية الفكر:-
تعلي الشريعة الإسلامية حرية الفكر وتحرير الإنسان من الأوهام والخرافات والتقاليد والعادات الجاهلية والاحتكام إلى عقله، وإلى التبصر والتدبر.
(انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ) يونس الآية 101، (ومَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) آل عمران الآية 7، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج الآية 46، فالإسلام يعلي شأن العقل الإنساني: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يونس الآية 24، (وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل الآية 44.
والاجتهاد بالرأي في الأمور التي لم يرد فيها نص القرآن أو السنة، نتيجة طبيعية لحرية الفكر في الإسلام، ووضع المسلمون قواعد لعملية الاجتهاد "أصول الفقه". حتى يتوصل العلماء إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. وكانت حرية الفكر في الإسلام وراء نشأة علم التوحيد أو الكلام.
6- حرية العقيدة:-
أن في الإسلام للإنسان الحق المطلق في أن يعتنق من العقائد ما يشاء (لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) البقرة الآية 256. (فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ) الغاشية الآيات 8.
إلا أن حرية العقيدة لا تعني التلاعب في المعتقدات الدينية واتخاذها هزءواً ولعباً أو ارتداد عن الدين الإسلامي وذلك حرصاً من الإسلام على أن تظل العقائد بمنأى عن العبث واتخاذها وسيلة للأهواء والعواطف.
الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطن:
1- الحق في التعليم:
ووردت في المادة "26" من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وتخص الشريعة الإسلامية على التعلم والقراءة: "اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ..." وتطلب الآيات القرآنية من الإنسان أن يتأمل ويتبصر وأن يعرف، فهي لا تساوي بين الذين يعرفون والذين لا يعرفون، ويرفع الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات ... والعلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء وورثة محمد عليه الصلاة والسلام وورثة الأنبياء، وفضل العلم خير من فضل العبادة.
وتعتبر الشريعة الإسلامية العلم فريضة على كل مسلم، اطلب العلم من المهد إلى اللحد، "وقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا"
ويتعين أن يكون التعليم في خدمة المجتمع وخدمة الوطن، خيركم من تعلم العلم وعلمه.
2- حق العمل:
وورد هذا الحق في المادة "23" من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ويحض الإسلام على العمل النافع للإنسان والمجتمع "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وإلَيْهِ النُّشُورُ" الملك الآية 15. "فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ" الجمعة الآية 10. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده"، "إن أشرف الكسب كسب الرجل من يده".
3- حق الزواج وتكوين أسرة:-
حبب الإسلام الزواج وتكوين الأسر، لسكون قلب الإنسان واطمئنان نفسه وراحة ضميره (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) الروم الآية 21، (واللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وحَفَدَةً ورَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) النحل الآية 72.
ويقوم الزواج على المودة والرحمة والمساواة بين الزوجين، (ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)، والمعاشرة بالمعروف.
ويتعين ممارسة هذه الحقوق وهي حقوق المواطنة في حدود القانون، وفي نفس الوقت فالمواطنة تفرض على المواطن التزامات يتعين عليه أن يبادر بأدائها فهي حق لله سبحانه وتعالى وحق لولي الأمر.
وقد جاء الإسلام حاملاً مبادئ وقيم وأخلاق وأهداف عدت أهم مرتكزات التنوع الثقافي فضلاً عن دعوته الرئيسة التي تقوم على التعايش السلمي وحفظ الحقوق للمسلم ولغيره.
خامسا : الإسلام والتعايش السلمي والتسامح وقبول الآخر
لم ترد في القرآن الكريم كلمة السماحة صراحة، لكن جاءت الكثير من المعاني التي تحمل في طياتها معاني السماحة، نحو الصبر والعفو والصفح، وكظم الغيظ ، يقول تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الجاثية: 14)، وقد ذكر العلامة السعدي في تفسير هذه الآية أن الله تعالى ((يأمر عباده بحسن الخلق، والصبر على أذية المشركين، الذين لا يرجون أيام الله، أي: لا يرجون ثوابه ولا يخافون وقائعه في العاصين، فإنه تعالى سيجزي كل قوم بما كانوا يكسبون)) ، ويقول تعالى: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف:89)، ويقول سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر :85) ويقول تعالى: (خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، وبقول تعالى عن صفة عباد الرحمن المؤمنين: (وعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وإذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان: 63)، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن أن الأديان أحب إلى الله عز وجل؟ قال: ((الحنيفية السمحة)) ، ومن هذا المنطلق فقد شمل الإسلام بيسره ورفقه الناس حتى غير المسلمين، فتسامح معهم في كثير من القضايا والأحكام، ومنحهم كثيراً من الحقوق، وقد تجلى هذا التسامح في رحمة الإسلام الواسعة.
ولقد وضعت الدولة الإِسلامية فلسفة المواطنة هذه في الممارسة والتطبيق، وقننتها في المواثيق والعهود الدستورية منذ اللحظة الأولى لقيام هذه الدولة في السنة الأولى للهجرة، ففي أول دستور لهذه الدولة تأسست الأمة على التعددية الدينية، وعلى المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين المتعددين في الدين والمتحدين في الأمة والمواطنة، فنص هذا الدستور – صحيفة دولة المدينة – على أن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وأن لهم النصر والأسوة مع البر من أهل هذه الصحيفة، ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين .. على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإِثم، وأن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من اشتجار يخاف فساده فمرجعه إِلى الله وإِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا تأسست المواطنة في ظل المرجعية الإِسلامية منذ اللحظة الأولى.