الاثنين، 12 فبراير 2018

الأنثروبولوجيا ( مفهومها – اقسامها – تاريخها )

الأنثروبولوجيا ( مفهومها – اقسامها – تاريخها )
مفهومها :
الأنثروبولوجيا هو دراسة مختلف جوانب البشر في المجتمعات الماضية والحاضرةعلم الإنسان الاجتماعي وعلم الإنسان الثقافييدرسان قيم ومعايير المجتمعات. الأنثروبولوجيا اللغوية تدرس كيف تؤثر اللغة على الحياة الاجتماعية. ويدرس علم الإنسان الحيوي التطور البيولوجي للإنسان.
يعتبر علم الآثار الذي يدرس ثقافات البشر القديمة من خلال التحقيق في الأدلة المادية، بأنه فرع من الأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة بينما يُنظر إليه في أوروبا على اعتباره اختصاص منفصل بحد ذاته، أو يُجمع مع اختصاصات أخرى مرتبطة به مثل التاريخ.
نُحتت الكلمة من كلمتين يونانيتين هما (Anthropo ومعناها "الإنسان" و Logy" ومعناها "علم"). وعليه فإن المعنى اللفظي لإصطلاح الأنثروبولوجيا (anthropology) هو علمُ الإنسان.
وتعُرّف الأنثروبولوجيا تعريفاتٍ عدة أشهرها:
علمُ الإنسان
علمُ الإنسان وأعماله وسلوكه.
علمُ الجماعات البشرية وسلوكها وإنتاجها.
علمُ الإنسان من حيث هو كائنٌ طبيعي واجتماعي وحضاري.
علمُ الحضارات والمجتمعات البشرية.
هذهِ التعريفات هي "للأنثروبولوجيا العامّة"، ويمكنُ من خلال التعريف الرابع أن نعرفَ "الأنثروبولوجيا الاجتماعية" على أنها: علم الإنسان من حيث كونه كائنٌ اجتماعي.

أقسامها :
تقسم الأنثروبولوجيا إلى أربعة أقسام رئيسة من وجهةِ نظر ألانثروبولوجييّن في بريطانيا، وهذهِ ألاقسام هي :
الأنثروبولوجيا الطبيعية
يرتبط هذا القسم بالعلوم الطبيعية وخاصة علم التشريح وعلم وظائف ألاعضاء "physiology"، وعلم الحياة ""Biology. وينتمي هذا القسم إلى طائفة العلوم الطبيعية، وأهم تخصصاتهُ علم العظام "Osteology"، وعلم البناء الإنساني Human Morphology""، ومقاييس جسم الإنسان anthropometry""، ودراسة مقاييس ألاجسام الحية "Biometrics"، وعلم الجراحة الإنساني "Human surgery ". ويُدرّس هذا القسم في كلياتِ الطب والعلوم ومعظم المتخصصينَ فيهِ من ألاطباء وعُلماءَ الحياة، ولكنهُ يدرّس أيضاً في كلياتِ العلوم الاجتماعية في أقسام الأنثروبولوجيا.
وتتناول الأنثروبولوجيا الطبيعية دراسة ظهور الإنسان على ألارض كسلالةٍ مُتميزة، وأكتسابه صفات خاصة كالسير منتصباً، والقدرة على استعمال اليدين، والقدرة على الكلام، وكبر الدماغ، ثم تدرس تطوره حياتيا. وإنتشاره على ألارض، وتدرس السلالات البشرية القديمة وصفاتها، والعناصر البشرية المُعاصرة وصفاتها وأوصافها الجسمّية المُختلفة، وتوزيع تلكَ العناصر على قارات ألارض، وتضع مقاييس وضوابط لتلكَ العناصر، كطول القامة، وشكل الجمجمة، ولون الشعر وكثافته، ولون العين وأشكالها، ولون البشرة، وأشكال ألانوف. وتدرس الوراثة، وانتقال ميزات الجنس البشري من جيلٍ لآخر.
الأنثروبولوجيا الاجتماعية
وتتركز الدراساتُ فيها على المُجتمعات البدائية. ومُنذ الحرب العالمية الثانية أخذت تدرس المجتمعات الريفية والحضرية في الدول النامية والمُتقدمِة. فتدرس البناء الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والنظم الاجتماعية مثل العائلة، والفخذ، والعشيرة، والقرابة، والزواج، والطبقات والطوائف الاجتماعية، والنظم الاقتصادية، كالإنتاج، والتوزيع، والإستهلاك، والمقايضة، والنقود، والنظم السياسية، كالقوانين، والعقوبات، والسلطة والحكومة، والنظم العقائدية، كالسحر والدين. كما تدرس النسق الإيكولوجي.
يهتم فرع الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة بتحليل البناء الاجتماعي للمجتمعات الإنسانية وخاصة المُجتمعات البدائية التي يظهر فيها بوضوح تكامل ووحدة البناء الاجتماعي، وهكذا يتركز اهتمام هذا الفرع بالقطاع الاجتماعي للحضارة، ويتمّيز بالدراسة العميقة التفصيلية للبناء الاجتماعي وتوضيح الترابط والتأثير المتبادل بين النظم الاجتماعية "النظرية الوظيفية"للعلامة "راد كليف براون"، وأساسها إن النظمَ الاجتماعية في مجتمع ما،هي نسيجٌ متشابك العناصر – يُؤثر كل عنصر في العناصر ألاخُرى، وتعمل تلكَ العناصر على خلق وحدة اجتماعية تسمح للمجتمع بالإستمرار والبقاء، ولا تهتم الأنثروبولوجيا الاجتماعية المُعاصرة بتأريخ النظم الاجتماعية، لإن تأريخ النظام الاجتماعي لا يفسر طبيعتهُ وإنما تفسر تلكَ الطبيعة عن طريق تحديد وظيفة النظام الاجتماعي الواحد في البناء الاجتماعي للمجتمع.
الأنثروبولوجيا الحضارية ( أو الثقافية)
وتدرس مُخترعات الشعوب البدائية، وأدواتها، وأجهزتها، وأسلحتها، وطرُز المساكن، وأنواع ألالبسة، ووسائل الزينة، والفنون، وألآداب، والقصص، والخرافات، أي كافة إنتاج الشعب البدائي المادي والروحي. كما تركز على الإتصال الحضاري بين الشعب ومن يتصل بهِ من الشعوب. وما يقتبسهُ منهم، والتطور الحضاري، والتغير الإجتماعي. ومُنذ الحرب العالمية الثانية أخذت تدرس المجتمعات الريفية والحضرية في الدول المتقدمة والنامية.
الأنثروبولوجيا التطبيقية
وحينَ إتصل ألاوربيونَ عن طريق التجارة والتبشير وألإستعمار بالشعوب البدائية، نشأت الحاجة إلى فهم الشعوب البدائية بقدر ما تقتضيهِ مصلحة ألاوربيين في حكم الشعوب وإستغلالها، وفي حالاتٍ نادرة جداً بقدر ما تقتضيهِ مساعدة تلكَ الشعوب وأعانتها على اللحاق بقافلة المدنية الحديثة. فنشأ فرعٌ جديدٌ من الأنثروبولوجيا يدرس مشاكل الاتصال بتلكَ الشعوب البدائية ومعضلات إدارتها وتصريف شؤونها ووجوه تحسينها. ويُدعى هذا الفرع "الأنثروبولوجيا التطبيقية". 
وقد تطورَ هذا الفرع "الأنثروبولوجيا التطبيقية" كثيراً، خاصة مُنذ الحرب العالمية الثانية، وتنوّعت مجالاتهُ بتطور أقسام الأنثروبولوجيا وفروعها، إذ إنهُ يمثل الجانب التطبيقي لهذهِ ألاقسام والفروع، ولا يعد فرعاً مُستقلاً عنها وإنما هو ألاداة الرئيسة لتطبيق نتائج بحوث كل فروع الأنثروبولوجيا والتي تجد طموحاتها لخدمة الإنسان والمُجتمع.
وقد شملت تطبيقاتهُ مجالات كثيرة أهمها: التربية والتعليم، والتحضّر والسُكان، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، خاصة تنمية المُجتمعات المحلية، والمجالات الطبية والصحة العامّة، والنفسية، والإعلام، والاتصال وبرامج الإذاعة والتلفزيون، والتأليف الروائي والمسرحي، والفن، ومجال الفلكلور "التراث الشعبي"، والمتاحف الإثنولوجية، إضافة إلى المجالات الصناعيّة والعسكرية والحرب النفسية، والسياسة ومُشكلات الإدارة والحكم، والجريمة والسجون، وغيرها.
ومن تطور هذا القسم (الأنثروبولوجيا التطبيقية) وازدياد البحوث فيهِ ظهرت فروع حديثة للأنثروبولوجيا الحضارية والاجتماعية حيث اختص كل فرع منها بمجال معين مما ورد أعلاه.وهو علم ليس له علاقة بالدين .

الفكر الإجتماعي فى القرن الثامن عشر
تعدّ الدراسات التي أجريت في القرن الثامن عشر حول الأبنية الاجتماعية، وأنساق القيم السائدة فيها، من أهمّ الدراسات التي مهّدت لظهور الأنثروبولوجيا الاجتماعية. وكان في مقدّمتها كتاب " روح القوانين " الذي ألّفه / مونتسيكو / عالم الاجتماع الفرنسي، والذي أكّد فيه أنّ المجتمع البشري وما يحيط به، يتكوّن من مجموع نظم مترابطة، بحيث لا يمكن فهم القوانين عند أي شعب من الشعوب، إلاّ إذا درست العلاقات التي تحكم هذا النظام أو ذاك، بما فيها البيئة والحياة الاقتصادية، والسكان والمعتقدات والأخلاق السائدة، حيث ميّز الفيلسوف الفرسي /مونتسيكو/ بين البناء الاجتماعي والنظام القيمي، على الرغم من العلاقة بينهما. وأوضح أنّ المجتمع ذاته وما يحيط به، يتكوّن من نظم يرتبط بعضها ببعض ارتباطاّ وظيفيّاً، وبالتالي لا يمكن فهم القانون العام لدى أي شعب من الشعوب، إلاّ إذا درسنا العلاقات بين هذه القوانين كلّها، ومن ثمّ دراسة علاقة تلك القوانين بالبيئة الطبيعيّة والحياة الاقتصادية، وعدد السكان والأعراف والتقاليد السائدة أو التي كانت سائدة .(الجباوي، 1982، ص101)‏

ولكن / سان سيمون / عالم الاجتماع الفرنسي أيضاً، يعدّ أول من رأى ضرورة إنشاء علم للمجتمع، واقترح إنشاء علم وضعي للعلاقات الاجتماعية. واعتبر أنّ مهمّة علماء الاجتماع لا تقتصر على دراسة المفاهيم والتصوّرات الاجتماعية فحسب، وإنّما يجب أن تشمل تحليل الوقائع والحقائق التي تعزّزها.‏
وإذا كان/ سيمون / لم يقصد تماماً إنشاء علم / الأنثروبولوجيا الاجتماعية/ وإنّما قصد إيجاد علم خاص يدرس النظم الاجتماعية وعلاقاتها دراسة موضوعيّة، فإنّ ذلك تحقّق فعلاّ بجهود تلميذه / أوغست كونت / .‏
هذا في فرنسا .. أمّا في إنكلترا، فقد ظهرت دراسات تمهيدية لعلم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ولا سيّما أبحاث / دافيد هيوم وآدم سميث/ حيث نُظر إلى كلّ مجتمع إنساني على أنّه نسق طبيعي ينشّأ من الطبيعة البشرية، وليس عن طريق التعاقد. ولذلك انتشرت مفاهيم جديدة، مثل : الأخلاق الطبيعية والدين الطبيعي. واعتبر المجتمع (أي مجتمع إنساني) ظاهرة طبيعية، لا بدّ من استخدام المنهج التجريبي والاستقرائي، عند دراسته بدلاّ من المناهج العقلية / الفلسفية .‏
وظهرت في هذه المرحلة التمهيديّة بوادر الاهتمام بالمجتمع البدائي، اعتماداً على رحلات الاستكشاف للآثار والمتاحف والمصادر المختلفة. وقد نُظر إلى الإنسان البدائي على أنّه متوحّش في مجتمعه، وهمجي في سلوكاته .. يتناقض كليّة مع إنسان المجتمع المتمدّن والمتقدّم. وخير مثال على ذلك، ما كتبه / جون لوك / عن الهنود الحمر في أمريكا، حيث أصدر أحكاماً عامة وغير دقيقة، عن هذه الشعوب البدائية .‏
والخلاصة، إنّ علماء القرن الثامن عشر وفلاسفته، مهما تكن آراؤهم، مهّدوا بشكل أساسي لظهور علم دراسة الأنثروبولوجيا الاجتماعية، وذلك نتيجة لاهتمامهم بالنظم الاجتماعية من جهة، واعتبارهم المجتمعات الإنسانية أنساقاً طبيعية، في إطار (الطبيعة البشرية) من جهة أخرى يجب أن تدرس من خلال المناهج التجريبية، على الرغم من أنّ دراسات هؤلاء المعنيين كانت بعيدة عن طبيعة هذه المناهج، وكانت تعتمد على التحليل الصوري (الشكلي ).‏

الفكر الإجتماعي فى القرن التاسع عشر
خلال القرن التاسع عشر تكرست الأنثروبولوجيا كميدان علمي مستقل له تقنياته الخاصة ومجال بحثه المميز: المجتمعات المسماة "بدائية". 
لقد شكلت ولادة هذا العلم الجديد عن الِإنسان، استطراداً لمنحى تاريخي قديم: الاكتشاف المتدرج من قبل أوروبا للمجتمعات "الأخرى" أي المختلفة وغير الصناعية.
في الحقيقة، إن الأضواء سلطت منذ القرن التاسع عشر على تنوع واختلاف الأعراق البشرية وأشكال تنظيماتها الاجتماعية، وذلك حين بدأ الرحالة والمكتشفون الأوائل، بالتعرف والاهتمام بالمجتمعات الخارجية غير الأوروبية والغريبة، خاصة خلال مرحلة التوسع الاستعماري للغرب الملازمة لنمو الرأسمالية.
لذا، ومع الحملات العسكرية والتجارية، كثرت المؤلفات والروايات التي تصف مجتمعات القارات الأخرى وأنواع البشر الذين يعيشون فيها. وبالتالي، فإن مجمل الاكتشافات والمعطيات التي جمعت عن المجتمعات غير الأوروبية كانت في البداية دافعاً لتجديد الفكر الفلسفي عن الإنسان وطبيعة وجوده؛ وهكذا، فإن موضوعة الإنسان المتوحش والطيب، الذي يمثل نقيضاً للإنسان المتمدن الحديث، شغلت حيزاً كبيراً من اهتمام فلاسفة كبار أمثال ديدارو، برناردين، سانت بيار وروسو مع ما أفضت إليه من ظهور أفكار فلسفية كثيرة، حول وجود تطور /ص5/ إنساني أحادي الوجهة، يبدأ من حالة بدائية أصيلة وينتهي في الأشكال المعقدة التي يجسدها المجتمع الصناعي. 
نستطيع القول إذاً إن كلمة الأنثروبولوجيا قد استعملت منذ أوائل القرن التاسع عشر تقريباً؛ بهدف الرد على مجمل الأسئلة المتعلقة بالأصول، التشابهات والاختلافات البشرية والاجتماعية المعروفة حتى ذلك الحين، وهي بهذا التحديد كانت تعنى ولا تزال بالإنسان في مختلف أشكال ارتقائه وتطوره وانتظامه على مختلف الأصعدة، من الفيزيولوجي السلالي إلى الإيديولوجي مروراً بالاقتصادي والسياسي والقرابي، بلوغاً الرمزي والأسطوري، المعتقدي والديني. 
إنها والتعريف من الأنثروبولوجي البريطاني راديكليف براون، دراسة طبيعة المجتمع الإنساني دراسة منهجية منظمة، تعتمد على مقارنة الأشكال المختلفة للمجتمعات الإنسانية بالتركيز على الأشكال الأولية للمجتمع البدائي. 
مع تطور هذا الميدان العلمي الجديد، اختلفت التسميات التي أطلقت عليه، وذلك باختلاف المعاني والدلالات المعطاة له من قبل الباحثين الغربيين على تنوع جنسياتهم، ثقافاتهم ولغاتهم؛ بما أفضى إلى لُبس بين مصطلحاتٍ علمية متعددة مثل، الأتنوغرافيا، الأتنولوجيا والأنثروبولوجيا. 
في هذا المجال، لا بد من التوضيح أن الفارق في الاستعمال لهذه المصطلحات الآنفة الذكر، هو فارق في الاستخدام اللغوي الهادف لإعطاء مضمون هذا العلم الدقة اللازمة والإطار الواضح. 
ففي حين استخدم الإنكليز مصطلح الأنثروبولوجيا بمعنى علم الإنسان بشموليته وسعة آفاقه، نرى أن الأميركيين والفرنسيين قد استخدموا مصطلح الأتنولوجيا بمعنى علم الشعوب بما تحتويه من تمايزات عرقيةٍ ، ثقافية وحضارية. إلا أن التفارق العلمي الأساسي هو في كيفية استخدام كل من مصطلحي الأنثروبولوجيا والأتنولوجيا من ناحية، ومصطلح الأتنوغرافيا من ناحيةٍ أخرى وعدم جواز الخلط بينهما: 
الأتنوغرافيا هي مهمة علمية تقوم على مراقبة بعض الجماعات البشرية من خلال المشاهدة الحقلية المباشرة، وهي طبعاً إلى وصفٍ دقيقٍ وتجميع لكل المعطيات التفصيلية والجزئية المتعلقة بحياة مجموعة بشرية ثقافية محددة في الزمان والمكان، استناداً إلى منهج الدراسات الحقلية المفردة، وذلك بهدف تسجيل كل مظاهرها في جميع المستويات الملحوظة والمعيوشة. 
أما الأنثروبولوجيا او الأتنولوجيا فهي مهمة علمية تقوم عل الدراسات التوليفية والتحليلية للمجتمعات البشرية استناداً إلى المعطيات الوصفية الأتنوغرافية السابقة الذكر، بما يمكن أن تتوصل إليه من صياغةٍ لاستنتاجاتٍ عامه تتعلق بفهم كيفية الانتشار والتواصل والاتصال بين المجموعات الثقافية البشرية، إضافة إل التراكيب الاجتماعية القائمة على بنى ومفاصل متنوعة الوظائف والحركة. 
للأنثروبولوجيا إذاً طموح كليّ وشمولي في النظر إلى الإنسان، وذلك بقدر ما تتيحه خاصية التنوع الحضاري والاختلاف الثقافي من رؤيةٍ وتبصر؛ كيف السبيل إلى هذا الهدف وما هي خاصية السياق التاريخي الذي جعل من هذا الميدان، علماً يختص بدراسة ما سُمي بالشعوب البدائية واللاتاريخية كما يُقال، وحيث يختفي التدوين المكتوب أمام الحضور الدائم لفعل التواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل؟! 
هنا نتساءل أيضاً مع الأنثروبولوجي البريطاني إيفانز بريتشارد، ماذا يُقصد تحديداً بالشعوب البدائية؟ ولماذا تدرس هذه الشعوب؟ إن كلمة بدائي بالمعنى الذي تستخدم به في الكتابات الأنثروبولوجية لا تعني أبداً ان المجتمعات الموصوفة بها أسبق في الزمن أو أدنى منزلة من أنواع المجتمعات الأخرى. فمن المعروف أن لتلك المجتمعات تاريخاً طويلاً قد يماثل في طوله تاريخ المجتمعات الأوروبية نفسها، بالتالي، إذا ما كانت هذه المجتمعات لم تتطور في بعض النواحي الحضارية المعيوشة، التكنولوجية منها على وجه التخصيص، فهذا لا يعني انها لم تتفوق عليها في نواح حضارية معيوشةٍ أخرى، اجتماعية وسياسية وفكرية تأملية وفلسفية. 
إننا نتحفظ طبعاً على استعمال مصطلح البدائية وصفاً للشعوب التي تناولتها الأنثروبولوجيا بالدراسة، وذلك، لعدم جواز ومشروعية قياس درجة تطوربعض الشعوب نسبةً لما هو حاصل عند شعوب أخرى، بمجرد تسمية هذه الشعوب بدائية، نكون قد لجأنا إلى حكم تقويمي مسبق بصدد هذا "الآخر" المختلف نسبةً لما "نحن" عليه من حال. 
إننا نتساءل بمشروعية، نسبة إلى أي مقياس هذا الإنسان البدائي هو بدائي؟ استناداً إلى أي منظور علمي أو تاريخي أو أخلاقي يستطيع العلم، أي علم إنساني، اللجوء إلى قياس الآخر انطلاقاً من الذات - هنا الذات الحضارية الأوروبية؟! - ذلك أن كل جماعة بشرية تتطور نسبةً لما يمليه عليها نسقها الحضاري الخاص من محددات ومن حركية تاريخية، مرئية كانت أم كامنة، متسارعة أم بطيئة، وهذه الظروف هي قطعاً مختلفة ومتنوعة بمقدار اختلاف وتنوع أنماط انتظام الاجتماع البشري والحضاري. 

القرن العشرون :‏
وصلت الأنثروبولوجيا مع بداية القرن العشرين إلى مرحلة التخصّص بدراسة البنى الاجتماعية للمجتمعات، ولا سيّما المجتمعات القديمة، حيث ازدادت الدراسات الميدانية، وفي مقدّمتها الدراسة التي قام بها الأنكليزي / رادكيف براون / على سكان خليج البنغال، والتي اعتبرت المحاولة الأولى لفحص النظريات الاجتماعية بالعودة إلى مجتمع بدائي. وكذلك دراسة / مالينوفسكي / لسكان جزر (التروبوبرياند) لمدّة أربع سنوات، واستخدم فيها لغة أهالي هذه الجزر. فكان بذلك أوّل أنثروبولوجي يتمكّن من فهم حياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية، من خلال تتبّع عاداتهم وتقاليدهم، وتحليل مدلولاتها الاجتماعية .‏
فخلال الربع الأوّل من هذا القرن، عكف الباحثون الأنثروبولوجيون على جمع الوثائق التي يحتاجون إليها من أجل إثبات ظاهرة الاقتباس بين الثقافات المختلفة. ويلاحظ أنّ العامل التاريخي، من وجهة نظر تاريخ الطريقة الأنثروبولوجية، احتلّ مكان الصدارة في دراسة المجتمعات، حتى في المحاولات المبذولة لإثبات ظاهرة الانتشار الثقافي، الناجمة عن الاحتكاك بين الشعوب. ويعود ذلك إلى أنّ هؤلاء الباحثين، كانوا يدركون جيّداً أهميّة البيانات التاريخيّة في فهم العوامل الثقافية الدينامية. (لينتون، 1967، ص 259 )‏

أمّا في الربع الثاني من القرن العشرين، فقد أصبحت للأنثروبولوجيا الاجتماعية فروع مستقلّة تدرّس في الجامعات الأوروبية، ولا سيّما في الجامعات البريطانية .. وانتشر تطبيق منهج الدراسة الميدانية نتيجة لتأثير علم / مالينوفسكي / الذي بدأ منذ عام 1924، بتدريب الأنثروبولوجيين على القيام بالدراسات الميدانية .‏
وفي عام 1937، أعاد / براون / تنظيم معهد الأنثروبولوجيا في جامعة أكسفورد، وطوّر مناهجه. وبفضل جهود / مالينوسكي وبراون / وتلامذتهما من ذوي الخبرة في الدراسات الأنثروبولوجية الميدانية، أجريت دراسات متعدّدة على مجتمعات صغيرة في أفريقيا (دراسة نظم القرابة والطقوس والسياسة )، وأحدث المعهد الدولي الأفريقي في جامعة أكسفورد، تصدر عنه مجلّة متخصّصة في علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية .‏
وتابعت الأنثروبولوجيا الاجتماعية دراساتها المتقدّمة، في النصف الثاني من القرن العشرين، مماّ أدى إلى اتّساع هذه الدراسات وازدهارها، وبالتالي إلى التقارب بين الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا الثقافية .. وتمّ اعتماد تطبيق المنهج التجريبي بدلاً من المنهج المقارن، حيث يستند كلّ باحث أنثروبولوجي – في تطبيق المنهج التجريبي – إلى نتائج دراسة باحث آخر لمجتمع معيّن، ويقوم بدوره بالتأكّد من صحّة هذه النتائج من خلال قيامه بدراسة مجتمعات أخرى. وبذلك، تصبح الفرضيّات المتفق عليها مبادئاً عامة في نهاية الأمر، أو معارف متداولة في مجال الأنثروبولوجيا الاجتماعية .. وهذا ما عزّز من علم الأنثروبولوجيا في العصر الحديث .‏