مسالك
العلة
(الإجماع – النص - الايماء – السبر –التقسيم – المناسب)
1 – الإجماع:
فإذا أجمعت الأمة على الوصف الفلاني علة
للحكم، ثبتت عِلِّيته له، إلا أن الإجماع قد يكون على علة معينة، وقد يكون على أصل
التعليل.
أما الأول فهو إجماع الأمة على عين العلة
، وذلك كتعليل ولاية المال بالصغر ، وكإجماعهم على أن علة تقديم الأخ من الأبوين على
الأخ من الأب في الإرث ، هو امتزاج النسبين ، أي كونه من الأبوين ، وحينئذ يقاس عليه
تقديمه في ولاية النكاح ، والصلاة عليه ، وتحمل العقل ، بجامع امتزاج النسبين .
وكالإجماع على أن العلة في قوله - r -: (( لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان )) هي
تشويش الغضب للفكر، وقيس عليه كل مشوش للفكر، كالجوع المفرط وغيره، فيمتنع معه الحكم.
وأما الثاني، وهو الإجماع على أصل التعليل
دون تعيينه، فكإجماع السلف على أن الربا في الأصناف الأربعة معلَّل، إلا أنهم اختلفوا
في عين العلة، فقيل: الطعم، وقيل: القوت، وقيل الكيل، وقيل غير ذلك.
2 – النص:
وهو ما يدل بالوضع من الكتاب والسنة على
علية وصف الحكم، وينقسم إلى قسمين:
قاطع: وهو الذي لا يحتمل غير العلية، ويعبر
عنه بالصريح.
وظاهر: وهو الذي يحتمل غيرها احتمالاً مرجوحاً.
أولاً: النص الصريح: وله ألفاظ تدل عليه
منها:
أ – النص على العلة بالاسم الصريح كقوله: العلة كذا،أو
لعلة كذا،أو لسبب،أو لمؤثر أو لموجب كذا، أو لأجل كذا، كقوله تعالى: ) من أجل ذلك كتبنا
على بني إسرائيل ( وكقوله عليه الصلاة والسلام: (( إنما جعل الاستئذان من أجل البصر
)).
ب – كي: كقوله تعالى: ( كي لا يكون دولة
بين الأغنياء منكم ).
جـ - إذن: كقوله تعالى: ( إذن لأذقناك ضعف
الحياة وضعف الممات).
ثانياً: النص الظاهر: وله أيضاً ألفاظ تدل
عليه منها:
أ –
اللام : سواء أكانت ظاهرة ، نحو قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس)
وقوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج
الناس من الظلمات إلى النور)
أم مقدرة نحو قوله تعالى: ) ولا تطع كل حلاف مهين ، هماز
مشاء بنميم ( .... إلى قوله تعالى: ) أن كان ذا مال وبنين ( أي لأن كان ذا مال وبنين
.
ب – الباء : كقوله تعالى: ( فبظلم من الذين
هادوا حرَّمنا عليهم طيبات أحلت لهم )
وقوله تعالى: ( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله)
.
جـ - إن : كقوله تعالى: ( رب لا تذر على
الأرض من الكافرين دياراً، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ) .
وقوله عليه الصلاة والسلام في تعليل طهارة
سؤر الهرة : ( إنها من الطوافين عليكم والطوافات).
د – إذ : كقولنا : ضربت العبد إذ أساء ،
أي لإساءته .
3 – الإيماء:
ويسمى بالتنبيه أيضاً، وهو اقتران وصف بحكم،
لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيداً من الشارع لا يليق بفصاحته وإتيانه بالألفاظ
في مواضعها، وهو أنواع منها:
أ – الحكم بعد سماع وصف ، كما في حديث الأعرابي
الذي واقع أهله نهار رمضان :
(( واقعت أهلي في نهار رمضان ، فقال له
- r - أعتق رقبة )) والاقتران
الذي تضمنه هذا الكلام هو أمره بالإعتاق عند ذكر الوقاع، وهذا يدل على أنه علة له،
وإلا لخلا السؤال عن الجواب ، وهذا بعيد جداً من الشارع ، فيقدر السؤال في الجواب ،
فكأنه قال : واقعت فأعتق .
ب – أن يذكر في الحكم وصفاً لو لم يكن علة
له لَعَرِىَ عن الفائدة ، وذلك كقوله - r
-:
(( لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان ))
فقد قيد رسول الله - r
- المنع من الحكم بحالة الغضب المشوش للفكر، وهذا التقييد يدل على أنه علة للحكم ،
وإلا لخلا ذكره عن الفائدة ، وهذا بعيد عن كلام الشارع .
جـ - تفريق الشارع بين حكمين بصفة ، مع
ذكرهما أو ذكر أحدهما، فمثال ذكرهما ما في الصحيحين (( من أنه - r - جعل للفرس سهمين وللرجل سهماً )) فتفريقه
- r - بين هذين الحكمين ، بهاتين
الصفتين ، وهما الفرسية والرجولية ، لو لم يكن لعلية كل منهما ، لكان بعيداً .
فالفرسية علة استحقاق خصوص السهمين والرجولية
علة استحقاق خصوص السهم ، أما علة الاستحقاق في الجملة فالقتال، أو الحضور بنيته وإن
لم يقاتل.
ومثال ذكر أحدهما قوله - r - : (( القاتل لا يرث )) ومفهومه أن غير القاتل
يرث وهذا المفهوم معلوم في الأصل ، فالتفريق
بين عدم الأرث المذكور والأرث المعلوم بصفة
القتل المذكور مع عدم الارث ، لو لم يكن للتعليل لكان بعيداً من كلام الشارع .
د – التفريق بين حكمين بشرط أو غاية أو
استثناء أو استدراك فمثال التفريق بين حكمين بشرط قوله - r - : (( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر
والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل ، سواء بسواء ، يداً بيد ،
فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا
كان يداً بيد )) .
فالتفريق بين منع البيع في هذه الأشياء
متفاضلاً ، وبين جوازه عند اختلاف الجنس ، لو لم يكن لعلية الاختلاف للجواز ، لكان
بعيداً .
ومثال الغاية ، قوله تعالى: ] ولا تقربوهن
حتى يطهرن [ أي: فإذا طهرن، فلا مانع من قربانهن، فتفريقه بين المنع من قربانهن في
الحيض، وبين جوازه في الطهر، لو لم يكن لعلية الطهر للجواز، لكان بعيداً.
ومثال الاستثناء، قوله تعالى: ( فنصف ما
فرضتم، إلا أن يعفون ) أي الزوجات عن ذلك النصف، فإن عفون فلا شيء لهن، فتفريقه بين
ثبوت النصف لهن، وبين انتفائه عند عفوهن، لو لم يكن لعلة العفو للانتفاء لكان بعيداً.
ومثال الاستدراك ، قوله تعالى: ( لا يؤاخذكم
الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) فتفريقه بين عدم المؤاخذة
بالأيمان وبين المؤاخذة بها عند تعقيدها لو لم يكن لعلية التعقيد للمؤاخذة ، لكان بعيداً
.
هـ - بناء الحكم على الوصف بالفاء ، وهو
أن يذكر حكم ووصف وتدخل الفاء على الثاني منهما سواء كان هو الوصف أو الحكم وسواء كان
من كلام الشارع أو الراوي.
فمثال دخول الفاء على الوصف في كلام الشارع
قوله عليه السلام : (( لا تقرِّبوه طيباً فإنه
يبعث يوم القيامة ملبياً )) فالعلة بعثه ملبياً .
قال الإسنوي : ولم يظفروا بمثالٍ لدخول
الفاء على الوصف في كلام الراوي .
ومثال دخولها على الحكم في كلام الشارع،
قوله تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) فالعلة السرقة.
ومثال دخولها على الحكم في كلام الراوي
قول عمران بن حصين : (( سها رسول الله - r
- فسجد )) وقول غيره : (( زنى ماعز فرجم )) فالعلة السهو والزنى .
ولا فرق بين الراوي الفقيه وغيره، إلا أن
الوارد في كلام الشارع أقوى في العلية من الوارد في كلام الرواي ، والوارد في كلام
الراوي الفقيه أقوى في العلية من الوارد في كلام غير الفقيه .
و – ترتيب الحكم على الوصف بدون فاء ، وهو
أيضاً يقتضى عليه الوصف ، سواء أكان الوصف مناسباً أم لا .
وذلك نحو قل القائل: أكرم العلماء، فترتيب الإكرام
على العلم لو لم يكن لعلية العلم للإكرام، لكان بعيداً.
وأما أنه لا تشترط فيه المناسبة فلأنه لو
قال قائل: (( أكرم الجاهل، وأهن العالم، لكان ذلك قبيحاً في العرف، وليس قبحه لمجرد
الأمر بالإكرام للجاهل ، وإهانة العالم ، فإن الأمر بإكرام الجاهل قد يحسن لدينه ،
أو شجاعته ، أو غير ذلك
والأمر بإهانة العالم قد يحسن أيضا لفسقه
أو بدعته،أو غير ذلك، وإذا لم يكن القبح لمجرد الأمر ، فهو إذن لسبق تعليل هذا الحكم
بهذا الوصف إلى الأفهام ، لأن الأصل عدم علة أخرى ، وإذا سبق التعليل إلى الأفهام مع
عدم المناسبة لزم أن يكون حقيقة ، لأن التبادر من أمارات الحقيقة)).
ز- المنع مما قد يفوت المطلوب ، وذلك نحو
قوله تعالى : ( فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) فالبيع وقت النداء يوم الجمعة قد
يؤدي إلى فوات صلاة الجمعة ، ولذلك منع منه ، فلو لم يكن هذا المنع لمظنة تفويتها ،
لكان بعيداً .
ح - ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الشرط
والجزاء، نحو قوله تعالى: ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ) أي لأجل تقواه.
ط – تعليل عدم الحكم بوجود المانع منه،
نحو قوله تعالى: ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ).
والجمهور على أنه لا يشترط أن تكون هناك
مناسبة بين الوصف المومي إليه وبين الحكم في جميع الصور التي ذكرناها ، بناء على أن
العلة هي المعرِّف كما مر معنا .
هذا وهناك وجوه أخرى للإيماء لا سبيل الآن
لحصرها، قال الغزالي: إن وجوه الإيماء لا تنحصر فيما يذكره الأصوليين ، وإنما يذكرون
ما يذكرون تنبيهاً على ما لم يذكر .
4 – السِّبر والتقسيم:
وهو المسلك الرابع من مسالك العلة، والسِّبر
لغة الاختبار، ومنه سمي ما يعرف به طول الجرح وعرضه مسباراً، ويقولون هذه القضية يسبر
بها غور العقل أي يختبر .
وأما التقسيم لغة فهو الافتراق ، ولذلك
عبر بعض الأصوليين عنه بالافتراق .
وحاصل هذا المسلك أن الناظر يحصر الأوصاف
الموجودة في الأصل المقيس عليه ، بأن يقول مثلاً: علة تحريم البيع في الربويات الطعم
أو الاقتيات، أو الادخار، أو الكيل وهذا هو
التقسيم ، ثم يختبر الصالح للعلية من غيره ، وهذا هو السبر ، فيعين الصالح كالطعم مثلاً
، ويبطل ما عداه بالطرق المعتبرة .
وهو ينقسم إلى قسمين حاصر وغير حاصر.
فالتقسيم الحاصر هو الذي يكون دائراً بين
النفي والإثبات، وذلك كقول الشافعي مثلاً:
ولاية الإجبار على النكاح، إما أن لا تعلل
بعلة أصلاً، أو تعلل، وعلى التقدير الثاني ، إما أن تكون معللة بالبكارة ، أو الصغر،
أو غيرهما، والأقسام الأربعة باطلة سوى التعليل بالبكارة
أما الأول وهو أن لا تكون معللة، والرابع
وهو أن تكون معللة بغير البكارة والصغر فباطلان بالإجماع
وأما الثالث، وهو التعليل بالصغر فباطل
أيضاً، لأنها لو كانت معللة بالصغر فباطل أيضا، لأنها لو كانت معللة بالصغر لثبتت الولاية
على الثيب الصغيرة لوجود العلة، وهو باطل لقوله عليه الصلاة والسلام: (( الثيب أحق
بنفسها )).
وهذا القسم يفيد القطع إن كان الحصر في
الأقسام، وإبطال غير المطلوب قطعياً.
وإلا فهو يفيد الظن وهو الأكثر في الشرعيات.
وأما التقسيم الذي ليس بحاصر، فهو الذي
لا يكون دائراً بين النفي والإثبات، ويسمى بالتقسيم المنتشر، وهو لا يفيد إلا الظن،
وهو حجة في الشرعيات لا العقليات
ومثاله قولنا : علة حرمة الربا في الربويات
إما الطعم ، أو الكيل ، أو القوت ، أو الادخار ، ومن ثم نبطل ما عدا الطعم بالطرق المعروفة
للإبطال ، فيتعين الطعم ، وهو المطلوب .
وأما طرق إبطال العلية لوصف فكثيرة منها:
أ – بيان أن الوصف طرد، من جنس ما علم من
الشارع إلغاؤه، كالذكورة والأنوثة في العتق، والطول والقصر، فهذه أمور لم يعتبرها الشارع.
ب – أن يكون في الوصف نقض .
جـ - أن يكون فيه كسر أو خفاء أو اضطراب
، وستأتي معانيها في قوادح العلة إن شاء الله .
5 – المناسبة:
المسلك الخامس من المسالك الدالة على العلة
هو المناسبة ، ويعبر عنها بالإخالة، والمصلحة ، والاستدلال ، ورعاية المقاصد .
والمناسبة لغة: الملائمة، واصطلاحاً: ملائمة
الوصف المعين للحكم.
وسميت مناسبة الوصف للحكم بالإخالة لأن
بها يخال أي يظن أن الوصف علة للحكم.
واستخراج المناسبة الحاصل بإبداء الوصف
المناسب يسمى تخريج المناط
والمناط : هو العلة التي نيط بها الحكم
أي علق .
وسمي استخراج المناسبة بتخريج المناط ،
لأنه استخراج ما نيط الحكم به .
ويعتبر تخريج المناط من أدق مباحث القياس،
بل الأصول وأغمضها، ولذلك كان اهتمام الأصوليين به أكبر من اهتمامهم بغيره، فأشبعوه
بحثاً، وتحقيقاً، وتفصيلاً.
فتخرج المناط هو: تعيين المجتهد العلة بإبداء
مناسبة بينها وبين الحكم مع الاقتران بينهما في دليل حكم الأصل والسلامة عن قوادح العلة
.
والاقتران معتبر في كون الوصف المناسب علة
لا في كون الوصف مناسبا، وصورته أن يحكم الشارع في صورة بحكم، ولا يتعرض لبيان علته،
فيبحث المجتهد عن علة ذلك الحكم ويستخرج ما يصلح أن يكون مناطا له.
وذلك كالإسكار في حديث مسلم (( كل مسكر حرام )) فهو لإزالته العقل المطلوب حفظه،
مناسب للحرمة قد اقترن بها في دليل الحكم، وهو الحديث، وسلم من القوادح.
ويتحقق استقلال الوصف المناسب بالعلية بنفي
غيره من الأوصاف بواسطة السبر المتقدم في المسلك السابق .
والمناسب: المأخوذ من المناسبة هو الملائم
لغة وأما اصطلاحاً، فقد عرَّفه ابن الحاجب بأنه وصف، ظاهر، منضبط، يحصل عقلاً من ترتب
الحكم عليه ما يصلح كونه مقصوداً للشارع، من حصول مصلحة، أو دفع مفسده.
وذلك كالقتل العمد العدوان فإنه وصف ظاهر منضبط،
يلزم من ترتب الحكم عليه وهو إيجاب القصاص على القاتل ، حصول منفعة ، وهو حفظ الحياة
وبقاؤها، ودفع مضرة وهي التعدي ، فإن الإنسان
إذا عرف أنه سيقتص منه إذا قتل ، أحجم عن القتل ، وقد يقدم عليه وهو موطِّن نفسه على
الهلاك والتلف .
والمناسب كما يكون وصفاً ظاهراً منضبطاً
، قد يكون خفياً ، أو غير منضبط ، وفي هذه الحالة لا يمكن أن يكون علة ، لأن العلة
هي المعرِّف للحكم ، وما كان خفياً ، أو غير منضبط ، لا يكون معرفاً، ولذلك اعتبروا
ما يلازمه عقلاً أو عرفاً أو عادة ، مما هو ظاهر منضبط ، وهو المظنة له ، فيكون هو
العلة ، وذلك كالسفر ، الذي يعتبر مظنة للمشقة التي ترتب عليها الترخيص أصلاً ، لأنها
هي الوصف المناسب ، إلا أنها لما كانت غير منضبطة لاختلافها باختلاف الأشخاص ، والأحوال
، نيط الترخيص بمظنتها ، وهو السفر.
أقسام المناسب
ينقسم المناسب باعتبارات وحيثيات متعددة
إلى أقسام متعددة، فهو باعتبار إفضائه إلى المقصود له أقسام، وباعتبار نفس المقصود
له أقسام أخرى، وباعتبار اعتبار الشارع له ينقسم أيضاً إلى أقسام.
أولا: أقسام المناسب باعتبار حصول المقصود:
هذا هو التقسيم الأول للمناسب، وهو باعتبار
إفضائه إلى المقصود، وذلك لأن الحكمة التي هي مقصود الشارع من شرع الحكم أي من ترتبه
على العلة قد يكون حصولها يقيناً وقد يكون مظنونا، بأن يكون حصولها أرجح من انتفائها،
وقد يكون مشكوكاً فيه بأن يكون حصولها وانتفاؤها على حد سواء ، وقد يكون نفيها أرجح
من حصولها.
الأول : وهو ما يكون حصوله يقينا، وذلك
كالحكمة المقصودة من ترتب حِلِّ البيع على وصفه المعلل به، وهو الاحتياج إلى المعاوضة
في الجملة.
والحكمة الحاصلة هي الملك يقينا .
الثاني : وهو ما يكون حصوله مظنونا، وذلك
كالحكمة المقصودة من ترتب وجوب القصاص على القتل العمل العدوان .
والحكمة هي انزجار الناس عن الإقدام على
القتل مما يحفظ الحياة ويضمن بقاءها وهذه الحكمة مظنونة الحصول ، فإن الممتنعين عن
القتل أكثر من المقدمين عليه ، فالذي يغلب على الظن أن الإنسان إذا عرف القصاص أحجم
عن القتل .
الثالث : وهو ما يستوي حصوله وانتفاؤه ، وذلك كالحكمة
المقصودة من ترتب الحدِّ على شرب الخمر، لأجل الإسكار ، فإن المقصود من شرع الحد هو
الانزجار عن شربها ، وحصول هذا المقصود وانتفاؤه متساويان ، بتساوي الممتنعين عن شربها
والمقدمين عليه، فيما يظهر للناظر، لا بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، لتعذر الاطلاع
عليه، مما جعل بعض الأصوليين يقول : إن هذا النوع لا مثال له على التحقيق .
الرابع : وهو ما يكون النفي فيه أرجح ،
وذلك كنكاح الآيسة من أجل التولد ، الذي هو المقصود من النكاح ، فإن انتفاء هذا المقصود
أرجح من حصوله في حق الآيسة .
التعليل بهذه المراتب:
اتفق القائلون بالمناسب على جواز التعليل
بالمرتبة الأولى والثانية ، وهي ما كان حصول المقصود فيها يقينا أو مظنونا .
واختلفوا في الثالث والرابع، وهو ما كان
المقصود فيه مشكوكاً فيه، أو موهوما، والصحيح جواز التعليل بهما، نظراً إلى حصول المقصود
في الجملة.
وبناء على ذلك فإنه يجوز للمسافر المترفِّهِ
في سفره، كالمسافر بالطائرة، أو ما يشابهها، مما يظن فيه انتفاء المشقة التي هي حكمة
شرع الترخيص يجوز له أن يترخص فيقصر الصلاة، ويفطر.
وإنما قلنا : المظنون معه انتفاء المشقة ، لأن الترفه
لا ينافي المشقة ، فقد توجد المشقة مع الرفاهية في السفر إلا أنها تختلف باختلاف وسيلة
السفر وطبيعة الشخص المسافر فالسفر في الجو فيه من المشقة ما لا يوجد في سفر البر ،
مما يترتب على ارتفاع الضغط وانخفاضه ،وصحة المسافر ومرضه ، وغير ذلك من الأمور ، فالوسيلة
فيها رفاهية ، إلا أنها لا تمنع من المشقة على الجملة .
ولذلك نيطت الرخصة بالسفر الذي هو مظنة
هذه المشقة .
انتفاء المقصود يقينا :
وأما إذا انتفى المقصود من شرع الحكم يقينا،
فلا يعلل به، ولا يعتبر.
وذلك كلحوق نسب ولد المغربية بالمشرقي فيما
لو تزوج رجل بالمشرق امرأة بالمغرب فأتت بولد، فإن الولد لا يلحقه نسب أبيه ، للقطع
عادة بعدم تلاقي الزوجين مما لا يحتمل معه حصول المقصود من النكاح، وهو حصول النطفة
في الرحم، مما يحصل معه العلوق والولد ، خلافاً للحنفية في ذلك .